مدير تعليم الفيوم يجتمع مع لجان المديرية لمتابعة امتحانات الفصل الدراسي الثاني    عيار 21 يسجل 4665 جنيهًا.. أسعار الذهب اليوم السبت 24 مايو 2025    مجلس أوروبا يدافع عن استقلالية المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان وسط انتقادات    لبنان بين الاقتراع والإعمار.. جدل السلاح يعيد رسم المشهد الانتخابي.. الانتخابات البلدية تمثل لحزب الله محطة مفصلية أكثر من أي وقت مضى    انقطاع الكهرباء بفرنسا وزلازل وحرائق.. المشهد الفلكي كما توقعته وفاء حامد    تعادل إيجابي في الشوط الأول بين الزمالك وبتروجيت    فليك يحدد هدفه مع برشلونة في الموسم المقبل    بقيمة 77 مليون جنيه.. ضبط 4 أشخاص لاتهامهم بالتنقيب عن الذهب في أسوان    بالصور.. اجتماع اللجنة العليا لمهرجان المسرح المصري لمناقشة تفاصيل الدورة ال 18    فرقة ديروط تقدم «السيد بجماليون» على مسرح قصر ثقافة أسيوط    اليوم.. عرض أولى حلقات برنامج مسيرتي ل جورج وسوف    ذكرى مرور 123 عاما على الإسعاف في مصر.. قصة نشأته ودلالة شعاره    اغتنم فضلها العظيم.. أفضل الأدعية والأعمال في عشر ذي الحجة ويوم عرفة 2025    الصحة: تطبيق اسعفني يرفع الضغط عن بلاغات الطوارئ.. نستقبل مليون اتصال يوميا    الدفاعات الجوية الأوكرانية تعترض 245 طائرة مسيرة روسية    وزير البترول يتفقد مشروعات فوسفات مصر بأبو طرطور.. ويؤكد: انطلاقة جديدة لقطاع التعدين    شديد الحرارة.. الأرصاد تكشف حالة الطقس غدًا    رئيس هيئة الإسعاف: إطلاق تطبيق "أسعفني" لتسهيل خدمات الطوارئ    البابا تواضروس يصلي القداس الإلهي ب كنيسة «العذراء» بأرض الجولف    تباين أداء قطاعات البورصة المصرية.. قفزات في المالية والاتصالات مقابل تراجع المقاولات والموارد الأساسية    فى حضرة قباء بالمدينة المنورة.. المصريون بين عبق التاريخ ورعاية لا تغيب "فيديو"    تأجيل محاكمة أكبر مافيا لتزوير الشهادات الجامعية    7.5 مليون طن صادرات زراعية.. مصر تحصد ثمار استراتيجيات التنمية المستدامة    سيميوني: أهدرنا فرصة الفوز باللقب فى أسهل موسم    مركز الساحل والصحراء يعقد مؤتمرًا عن "الإرهاب فى غرب أفريقيا".. صور    عضو شعبة المواد الغذائية: «كلنا واحد» تعيد التوازن للأسواق وتدعم المستهلك    مسلم يرد من جديد على منتقديه: كفاية بقى    محمد رمضان يروج ل فيلم "أسد" بصورة جديدة من الكواليس    ممكن تترشح في أي دائرة.. وزير الشؤون النيابية يكشف تفاصيل جديدة بشأن نظام الانتخابات    هيثم فاروق: أثق في يورتشيتش وبيراميدز لن يعود للدفاع في الإياب أمام صن داونز    إصابة نجم يد الزمالك بقطع في الرباط الصليبي للركبة    ملك المونولوج.. ذكرى رحيل إسماعيل ياسين في كاريكاتير اليوم السابع    رئيس الوزراء يشارك غدا بمنتدى الأعمال المصرى - الأمريكى    تأجيل محاكمة متهمي اللجان النوعية    "ملكة جمال الكون" ديو يجمع تامر حسني والشامي    وزيرة التنمية المحلية تعلن انتهاء الخطة التدريبية لسقارة للعام المالي الحالي    سقوط عدد من "لصوص القاهرة" بسرقات متنوعة في قبضة الأمن | صور    أزهر كفر الشيخ يختتم أعمال تصحيح الشهادة الابتدائية وجار العمل فى الإعدادية    محافظ قنا يكرم باحثة لحصولها على الدكتوراه في العلوم السياسية    سيد عطا: جاهزية جامعة حلوان الأهلية لسير الاختبارات.. صور    النائب مصطفى سالمان: تعديلات قانون انتخابات الشيوخ خطوة لضمان عدالة التمثيل    كونتي ضد كابيلو.. محكمة تحدد المدرب الأفضل في تاريخ الدوري الإيطالي    بمشاركة منتخب مصر.. فيفا يعلن ملاعب كأس العرب    محمد صلاح يعادل إنجاز رونالدو وهنري ودي بروين    راموس يمهد الطريق.. هل ينضم رونالدو إلى مونتيري في كأس العالم للأندية؟    المانجو "الأسواني" تظهر في الأسواق.. فما موعد محصول الزبدية والعويسي؟    النزول من الطائرة بالونش!    قوات الاحتلال تفرض حصارًا مشددًا على مخيمي طولكرم ونور شمس بالضفة    بيرو تفتح تحقيقاً جنائياً بحق جندي إسرائيلي بعد شكوى مؤسسة هند رجب    نائب وزير الصحة يبحث مع وفد منظمة الصحة العالمية واليونيسف تعزيز الحوكمة ووضع خارطة طريق مستقبلية    مباشر.. أسرة سلطان القراء الشيخ سيد سعيد تستعد لاستقبال جثمانه بالدقهلية    جامعة كفر الشيخ تسابق الزمن لإنهاء استكمال المنظومة الطبية والارتقاء بالمستشفيات الجديدة    براتب 20 ألف جنيه.. تعرف على فرص عمل للشباب في الأردن    رئيس جامعة الأزهر: القرآن الكريم مجالًا رحبًا للباحثين في التفسير    فتاوى الحج.. ما حكم استعمال المحرم للكريمات أثناء الإحرام؟    حكم طلاق الحائض عند المأذون؟.. أمين الفتوى يُجيب    الداخلية تضبط المسئول عن شركة لإلحاق العمالة بالخارج لقيامه بالنصب    هل يجوز الحج عن الوالد المتوفي.. دار الإفتاء توضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الزّمَنُ ذِئْبٌ والبَشَرُ نِعَاج.. الشاعر عيد صالح في ديوانه «كثيرون مَرُّوا من هنا»
نشر في المصري اليوم يوم 03 - 01 - 2023

كان الشاعر عيد صالح يكتب الشعر أيام صلاح عبدالصبور، وأحمد عبدالمعطي حجازي، ومحمد عفيفي مطر، كان شاعرا تفعيليا، لكنه الآن لم يعد يكتب القصيدة التفعيلية، بل قصيدة النثر، فهو شاعر مخضرم، قارب الثمانين (مولود في 25 نوفمبر 1943) هو من مواليد الدقهلية، ويعيش في دمياط، تعلم في الأزهر، وتخرج طبيبا، ثم تخصص في فرع الأنف والأذن والحنجرة، وقد توقف عن ممارسة الطب مع جائحة كورونا عام 2020، وفي نهاية عام 2021م صدر له آخر ديوان بعنوان «كثيرون مَرُّوا من هنا» (الهيئة العامة لقصور الثقافة- أصوات أدبية)
عرفتُ عيد صالح سياسيا ينتمي للحزب الناصري، حتى صار أمينه العام في محافظة دمياط، لكن ذلك كان بعد أن تهاوت الأحزاب وانصرف عنها الجمهور يأسا وإحباطا، لكني عرفت الشاعر أيضا في وقت مبكر، فأذكر أنه، منذ خمسة وثلاثين عاما، نشر الشاعر قصيدة صغيرة (إبداع، عدد يونيه 1988) قال فيها:
يقال بأنك شاعر
بحجم الكوارث
بالحُلم..
بالقبح..
لكنك الآن..
جُرَذٌ محاصَر.
أذكر أن الشاعر قد قرأ هذه القصيدة في مؤتمر أعلام دمياط، فعلق د. محمد حسن عبدالله قائلا: بل أنت شاعر، فعلا هو شاعر، وشاعر مرهف الإحساس، ومواظب على كتابة الشعر أيضا، فمنذ ستين عاما كتب أولى قصائده، التي يتذكر أنها كانت «رسالة لصديق». أما أول قصيدة نشرت له فكانت بعنوان «ذئاب البشرية» نشرتها مجلة «الأدب» التي كان يصدرها الأستاذ أمين الخولي (1995- 1966).
لسوف يظل الشاعر عيد صالح يتأمل في حال البشرية، حيث العالم ذئاب ونعاج. وحيث ظل هو يكتب الشعر حتى بلغت دواوينه العشرة، فبدأ بديوان «قلبي مهر بري» الذي ضاع في دهاليز «الهيئة العامة للكتاب»، ثم ديوان «قلبي وأشواق الحصار» (1990) و«شتاء الأسئلة» (1995) و«أنشودة الزان» (2002) و«خريف المرايا» (2008) و«سرطان أليف» (2011) و«ماذا فعلتَ بنا يا مارك؟» (2015) وأخيرا، هذا الديوان «كثيرون مروا من هنا».
الموضوع الشعري لدى عيد صالح متداخل مع حياته، من حيث هو إنسان رومانسي مرهف المشاعر، من ناحية، ومن حيث هو طبيب وسياسي يعيش الحياة الواقعية ويتأمل حال البشر من ناحية أخرى، إنه يتأمل الحياة وهموم الناس، لا ينفك عن معايشتها بحكم مهنته، فالواقعية مفروضة عليه تزاحم رومانسيته في كل سطر من سطور قصيدته.
يتصور الشاعر أن الحياة قد عاندته كثيرا، لكن أكثر مظاهر المعاندة كان هو الزمن نفسه، بأثره الساحق على الجسد وعلى القلب، وعلى الروح، لذلك امتلأ الديوان الأخير بقاموس من المفردات التي تجسد اليأس والإحساس بالضآلة والوحدة القاتلة، فنجد ذلك واضحا في سطور أول قصيدة في الديوان بعنوان «وحيدًا»:
أتحسّسُ خطوي
في عتمة الأسئلة
عَلّيَ أعثُرُ على مِشْجَبٍ
أعلّقُ عليه خيبتي.
إذا اطرد الإحساس ب«الخيبة» فهو فعل سلبي، لذلك فقد جعل الشاعر يلجأ لصيغة لغوية تعتمد على «أسلوب النفي» فعناوين القصائد البالغة 87 قصيدة (هناك قصيدة مكررة ) منها 19 قصيدة تتخذ من النفي صيغة وأسلوبا (لستُ – لا شيء يقيني – لا أمل في الشفاء – كأننا لا حيلة لا في الموت ولا في الحياة – لا أحد – لا جديد – لم يعد – لا مكان لك هنا – لست على ما يرام – لم- لا أريد – لا – لم تكوني ملاكا – لم يكن – لا بأس – لا عليك – لا أستطيع – لا أحد يطرق الباب – لا بأس)
في قصيدة «لستُ» يقِرُّ الشاعر بانقسام الذات:
لستُ الذي يكتبني الآن
ولا من تقمّصني
لكن الحيرة والإحساس بالضآلة هي أكثر ما تعانيه هذه الذات المنقسمة:
من أكون إذا
لأقبض على العالم
وأضعه في حافظتي
............
أجترُّني كبهيمة
وأضربُ بأظلافي في حظيرةٍ بلا أسوار.
المعاناة التي يحس بها الشاعر وينسحق تحت وطأتها، تجعله يبحث عن القصيدة، ليجعل منها مبتغاه:
هكذا تفعلُ القصيدةُ بي
وأنا أتضوّر كلمة أو صورة أسدُّ بها رمقي
وأدفئ صقيعي وأتيه على أقراني
وأقدمها لعشيقاتي
اللواتي يلهمنني ويتزوجن غيري
فأنا لا أصلح إلا للقصيدة التي التهمتني
وتركتني أهذي.
يتخذ عيد صالح من الطفولة موضوعا لشعره، والطفولة ليست البراءة فحسب، بل الطبيعة والريف، وكل ما هو منافٍ للمدينة وصخبها، فالمدينة تسحق الشاب القروي وتذيبه في دوامة الزحام، ففي القصيدة التي يتخذ الديوان عنوانه منها «كثيرون مروا من هنا» يقول:
أن تكون في العاصمة
عليك أن تخلع أسمالك
وتطوي فيها روحك،
وقلبك الذي قادك لمزالق كثيرة
وتضعها في حقيبة تحت السرير
كعهدة الجندي
يسلّمها وقت خروجه.
الشاعر هنا لا يستطيع أن يقف في منطقة الطفولة، كما فعل أحمد عبدالمعطي حجازي في قصائد ديوانه الأول «مدينة بلا قلب» (1956) فهناك كانت التجربة طازجة والإحساس بها حيا ملموسا، أما هنا فالشاعر قد كبر وهو يجتر ما كان، فلذلك جاءت الصور من منطقة الشباب (الجندي الذي أنهى الخدمة) لا من منطقة السذاجة الريفية، لذلك سيعود الشاعر في قصيدة «القروي» ليتذكر تلك الفترة نفسها، فترة الشباب المبكر والسفر والضياع في زحام العاصمة وما تركه على نفسه وجسده من ندوب:
ربما تذْكُرُكَ ذات يوم
وأنت على سلّم الحافلة
تتعلّق كبهلوان
وتقفز قبل أن تتوقف
لتلْعقَ الأسفلت
وتملأ جسدَكَ التسلخات.
لقد انشغلت ذاكرة الشاعر هنا بتلك التي ربما «تذكرته»، هي فتاة خضراء العينين، ساعدته حين هوى من الحافلة، فهي التي ضمدت جراحه الظاهرة، ولم تستطع أن تضمد جرحه النفسي، فظل هذا الجرح مرتبطا بالعاصمة المدينة الكبيرة، وبالزحام والانسحاق، ففي قصيدة «أفكر» يعود لتلك الحادثة القديمة:
يا سيدي لقد أُحِلتُ على المعاش
وأسير محنيَّ الظهر
وأنفرُ من كل من يحاول أن يعبر بي الطريق
حتى خضراء العينين
التي أخذتني لمدرجات الجامعة
وتركتني على محطة القطار.
الانسحاق الذي يحسه الشاعر، مصدره ليس الآلات الكبيرة مثل الحافلة والدبابة والقطار، فحسب، بل هو همٌّ ثقيل تسببه الحروب والأوبئة، وأفعال الساسة، والأمراض الفتاكة، والفقر والعوز، وكل مظاهر التجبر من القادرين المتمكنين، في مواجهة مظاهر الضعف والانسحاق، الذئاب تفتك بالنعاج. لذلك كان في عودة الشاعر لصباه قدرة على تخليق صورة أكثر تماسكا وقوة، ففي قصيدة «هل» تحقق ما كنا نرجوه من نصاعة للصورة وبهاء وقوة:
هل أنا كنتُ
ذلك الصَّبيّ الذي كان أول الفصل
وداهمته كلابُ القرية ذات ليلة
وأنقذه صوتُ المؤذّن.
ففي هذه القصة الصغيرة انتصار من نوعٍ ما، حيث كان الصبي متفوقا في دراسته، والذاكرة المنشغلة بالخطر القديم، تبتسم في حبور لهذا النصر، القديم أيضا، وأيضا لأن النصر قد أبقى على حياة الشاعر، بعيدا عن خطر الموت الذي اختطف آخرين، وترك الصبي حتى نجا، وأصبح طبيبا ربما أسهم في نجاة آخرين، أو حاول على الأقل:
كنتُ قد أفلتُّ من الكوليرا
بمعجزةِ الهروب للجَدّة
والنفاذ عبر التمائم والرقيات
كنت أداعبُ الشمسَ والغروبَ في منفاي
كان جدي يستمطرُ السماءَ
وكنت وحدي أعدُّ النجومَ حتى تتلاشى
قلتُ: الرفاق والفصل والمدرس
قالوا لم يبق غير القليل.
البلاغة في ديوان «كثيرون مروا من هنا» لها مصادر ومظاهر، فمن مصادرها التناصّ مع التراث، والثقافة العالمية، والواقع السياسي، والحروب، والثورة، والطب ومصطلحاته ومعانيه، والسينما، والفيس بوك. فمن التراث الأدبي العربي، تأثر الشاعر قليلا بأسلوب القرآن الكريم الذي حفظ نصه في طفولته، ومن الشعر العربي الحديث نجد صدى لحجازي كما أشرنا، وكذلك لعبدالصبور (وعمَّ قريتنا الخوف والظلام) وأدونيس (أنا المتهم والشاهد والقاضي / أنا الحاجب والنظارة/ أنا الأوراق والخاتم والخريطة) ومن التراث العالمي: نجد الإنجيل حاضرا (كأن نذكر أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان) ويذكر هيمنجواي وبيسّوا ورامبو وسرفانتس وكزانتزاكيس، برايتون وبول إلوار، ربما تسرب شيء من نفَسَهم الشعري، لكن حضور أسمائهم في النص هو الأكثر وضوحا.
ومن مظاهر البلاغة في الديوان الصورة المبنية على «المفارقة» كما في هذه الصورة:
وهو يقهقه
في شراسة عصفور
ووداعة ديناصور.
أما صورة البستاني، فالمفارقة فيها بين عمل البستاني، وانسجامه مع الطبيعة، ونظرة الشاعر وهو لا يملك من أمره شيئا إزاء الحركة والنشاط والإشراق والجمال :
وحده يصفّر ويغني
وهو يربت على الوردات والبتلات
وحدها الوردة
تهمس لأصابعه
وتمرّغ خديها في كفه
وتفوح بعطرها
في خجلٍ ودلال
وحدي أكتوي بينهما
في الصباح البهيج.
لكن الصورة لا تكتمل، لأن الشاعر لا يكِدّ في نسج بقية الرقعة التي أراد أن يرينا جمالها، الناجم عن التناقض بين الوردة والبستاني وبهجة الصباح من ناحية، والشاعر في وحدته وفي شيخوخته، حيث ينعدم النشاط وتغيب الحيوية وتوقف الغناء في عالمه، فاكتفى بإشارة إلى حاله، وكأنه تلصص على المشهد، لكن مشاعره لم تظهر كما ظهرت مشاعر البستاني ومشاعر الوردة.
وأما أسلوب «التجريد» فيظهر حين يخاطب الشاعر ذاته، بضمير «أنت» كأنه يخاطب شخصا آخر غيره:
مُحاصَرٌ في ذاتك
حتى لو حللتَ عقدة أوديب
أو شفرة دافنشي
أو ركبتَ فرس النهر.
وهو أسلوب كرره الشاعر في مواضع كثيرة من هذا الديوان، كما في قوله:
لا مكان لك هنا
لا لجريمة ارتكبتها
ولا لخطأ في التوقيت.
لكن نَفَسَ الشاعر قصير، فهو لا يتمسك بهذا النمط المبني على أسلوب التجريد في النص بطوله، بل يتخلى عنه ويعود ليحل ضمير الجماعة مكان ضمير المخاطب.
هذا النوع من الحيل الأسلوبية، كان دائما في حاجة إلى معاودة ومراجعة، تتطلب النَفَس الطويل، وهذا ظاهر في قصيدة «الحب» التي تبدأ هكذا:
ليس ثوبا نرتديه متى نشاء ونخلعه
ليس باصا لمحطة قريبة أو بعيدة.
ويستمر النص في تعداد صفات، يضعها في صيغة النفي، وكلها تؤكد أن الحب ليس في هذه الصور كلها، ثم يختم الشاعر نصه بسؤال:
ما الحب إذا
وما الذي كان بيننا
في قصة الحب الذي كان؟
إن النفي، هنا، لا يشفي غُلّة، ولا يضع حداً للحيرة، فقصيدة «الحب» مبنية على النفي، وهي لا تجيب على سؤال ما الحب؟ فقد انتهت القصيدة بالسؤال، ومع أن السؤال يحمل الدهشة، فإن بناء النص يجب أن يرتكز على شيء من الحيلة والمكر، فلو وضع الشاعر سؤاله في أول القصيدة، ثم عاد ليضع السؤال نفسه في آخرها، لكان ذلك في مصلحة البناء الدائري، في مصلحة الدهشة والحيرة، لكنه أجّل السؤال لنهاية النص، فبدا مثل انقطاع النَّفَس، وليس انقطاع الأمل.
في آخر نص في ديوان «كثيرون مروا من هنا» بعنوان «كل الطرق» ذكر الشاعر النواح المكتوم، والموت العشوائي، والحروب العبثية، وذكر الرومانسية والحب الذي كان، لكنه في النهاية كان يقصد أن:
كل الطرق تؤدي إلى المقبرة
لقد بدا الشاعر في حالة يأس، حتى تخيل أنه سوف يُدفن حيّا، حيث يتعجل أهله في الخلاص منه:
أكاد أشم التراب الذي سار عليه المشيعون الضجرون على عجل.
الشاعر لا ينظر في الحياة نظرة كلية، بل نظرة جزئية، تستمد من مرئياته، ومن أحوال الدنيا من حوله، من أحزاب سياسية، ومرضى في المستشفيات، وفقر، وظلم اجتماعي، فضلا عن إحساسه الشخصي بالوحدة والهزيمة حد الانسحاق، فالكوارث والقبح جعلت الشاعر مثل الجرذ المحاصر، كما قال قديما في قصيدته. ومع ذلك فقد جعلنا نأسى لحالنا، بسبب الحِمْل الثقيل الذي تحملنا إياه وطأةُ الزمن، فتتوعدنا به، ويا له من وعيد!
بقلم د. إبراهيم منصور
أستاذ النقد والأدب الحديث، جامعة دمياط


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.