كان هذا الأسبوع مخصصاً للمؤرخ التركى «أحمد آق كوندز» وكتابه الجديد «الدولة العثمانية المجهولة»، الذى حدث أن الكاتب المبدع محفوظ عبدالرحمن التقى كوندز ودعاه إلى القاهرة، ورتبت له ندوات فى كل من الجمعية المصرية للدراسات التاريخية ثم دار الشروق ومركزها لدراسة التاريخ، وبعد ذلك المجلس الأعلى للثقافة وأخيراً قسم التاريخ بآداب القاهرة «احتفاء علمى ضخم بالمؤرخ وكتابه»، الذى وضعه فى شكل سؤال وجواب، ضم حوالى 303 أسئلة، من بين خمسة آلاف سؤال، حول الدولة العثمانية، وتولى هو الإجابة عنها مع مؤرخ تركى آخر هو د. سعيد أوز تورك، وقال المؤلف إنه وضع الكتاب لتقديم صورة ووجه جديد للدولة العثمانية بناء على طلبات عديدة من بينها وزير المالية التركى السابق عدنان قهوة جى.والواضح أنه فى تركيا حنين إلى الدولة العثمانية، ومحاولة لتجميل صورتها بعدما قام به أتاتورك ورداً على الوجه السيئ الذى عرفت به فى الغرب، وتركيا لها عين على الغرب، الاتحاد الأوروبى، وعين على العالم العربى، وعندنا محاولة كذلك لرد الاعتبار للدولة العثمانية، قام بها عدد من المؤرخين مثل الراحل د. عبدالعزيز الشناوى، صاحب العمل الضخم «الدولة العثمانية.. دولة مفترى عليها»، وتزامنت تلك المحاولة مع صعود التيارات الأصولية والإسلام السياسى فى سنوات السبعينيات.. حيث جرت مقولة «إن الدولة العثمانية هدمت لأنها رفضت السماح ببيع أراضى فلسطين وإن اليهود عاقبوها، فدمروها وشوهوا صورتها». قرأت «الدولة العثمانية المجهولة» كمصرى، فوجدت أنه يتحدث عن غزو الدولة لمصر فى أقل من نصف صفحة، ولا يذكر شيئاً عن الجرائم التى قام بها سليم الأول فى مصر وتجاه المصريين، حيث أعدم السلطان طومان باى على باب زويلة، وحين فرغها من كل الكوادر المتخصصة بها من فنيين ومهندسين فى مختلف الحرف والفنون، والواقع أن الدولة العثمانية أعاقت تطور مصر الحضارى وأصابتها بالتخلف، فى وقت كانت أوروبا فيه تنهض وتدخل العصر الحديث، والغريب أن سليم الأول حين واجه الدولة الصفوية «إيران» لم يجد غضاضة فى ذلك باعتبارها دولة شيعية، صدرت فتوى بأنها دولة كافرة، وحين قرر أن يغزو مصر كانت المشكلة أنها دولة مسلمة سنية، وأن سلطانها يحمل لقب «خادم الحرمين» فاستصدر فتوى بأن مصر «ديار كفر وعناد» واستند المفتى العثمانى فى ذلك إلى أن موكب الحجاج التركى تعرض للنهب من اللصوص وهو يمر من سيناء.. ولم تكن الدولة العثمانية دولة استبداد وتسلط ونهب فقط، ولكنها وقفت ضد أمانى المصريين، ففى ذروة أحداث الثورة العرابية ومواجهة الجيش المصرى للإنجليز، صدرت فتوى من السلطان العثمانى بعصيان عرابى، وكانت الفتوى لصالح الإنجليز فى المقام الأول، وكانت من أسباب انصراف كثير من النخبة المصرية عن عرابى، الأمر الذى أدى فى النهاية إلى احتلال مصر. وأكبر الأكاذيب التى يروجها العثمانيون الجدد من مؤرخين وكتاب مصريين وعرب تتعلق بالصهيونية وفلسطين، فليس صحيحاً على وجه الإطلاق أن السلطان عبدالحميد تصدى للصهيونية فى فلسطين، والثابت تاريخياً أن الهجرات اليهودية ذات الطابع الصهيونى والجمعيات الصهيونية بدأت نشاطها فى فلسطين بشراء الأراضى البور، التى كانت تتبع الدائرة السنية، أى الدولة العثمانية فى نهاية الأمر، وقامت المستعمرات الصهيونية فى فلسطين منذ مطلع الثمانينيات فى القرن التاسع عشر جهاراً نهاراً أمام عين الدولة ورجالها، ومنذ مطلع التسعينيات، كان أعيان الفرس يبعثون بشكاوى إلى مقر الدولة، وإلى الصدر الأعظم من تجاوزات المهاجرين، وتحدثت بعض الصحف فى مصر وفى فلسطين عن رشاوى يدفعها الصهيونيون إلى الولاة العثمانيين فى مناطق فلسطين، ولم تحرك الدولة ساكناً، ولم توقف مهاجراً، وكل ما وجد فى الوثائق أن السلطان عبدالحميد اعترض ورفض إقامة المستوطنين والمهاجرين الصهاينة حول المسجد الأقصى أو قريباً منه داخل القدس. والواقع أن فلسطين كانت تابعة بالكامل للدولة العثمانية، حتى سنة 1917، حيث وقعت تحت الانتداب البريطانى ولا ينكر دارس ما قام به الانتداب البريطانى من تمكين للجماعات الصهيونية فى فلسطين ومضاعفة أعداد المهاجرين، لكن قبل ذلك التاريخ كانت الهجرات مستمرة، وبنيت تل أبيب واحتفل بتأسيسها سنة 1909 فى ظل التواجد العثمانى على أرض فلسطين، ووضع أساس الجامعة العبرية فى تلك الفترة. والواضح أن هناك محاولات تركية، تتم على مستوى الدولة التركية وعلى مستوى قطاع من نخبتها المثقفة لغسيل تاريخ الدولة العثمانية، ولا مانع فى التاريخ من إعادة النظر فى بعض المواقف والأحكام من حقبة تاريخية بعينها أو حاكم بذاته أو دولة ما على أن يكون ذلك على ضوء اكتشاف أو ظهور وثائق جديدة واكتشاف حقائق لم تكن واضحة أو حتى إعادة التفكير والنظر فى وقائع بعينها، وقد يكون مفهوماً الآن أن يعيد فريق من المؤرخين والمثقفين الأتراك النظر فى الدولة العثمانية، خاصة بعد فشل تركيا التام فى دخول النادى الأوروبى، ورفض الاتحاد الأوروبى اعتبارها عضواً أوروبياً، ومنحها ذلك الشرف الرفيع، من وجهة نظر الدولة التركية، ويمكن أن تكون الدولة العثمانية مصدر فخار للأتراك، فقد جعلت من دولتهم إمبراطورية هيمنت لعدة قرون على العالم الإسلامى، وتحديداً الإسلام السنى منه. ما يمكن أن نتفهمه تركيا لا أستطيع أن أتقبله مصريا أولاً وعربياً ثانياً، مصريا كانت دولة المماليك أقوى دولة فى المنطقة العربية، وهى كذلك على مستوى العالم الإسلامى، وكانت واحدة من الدول ذات الاعتبار فى عالم ذلك الزمان، وأسقطت الدولة العثمانية الدولة المصرية، وبل قامت بشطبها من الواقع وحولت مصر إلى مجرد «إسالة عثمانية» تنتظر الوالى قادماً بفرمان سلطانى من الأستانة، عبر البحر ومنه إلى القلعة.. وحينما حاولت مصر أن تستقل وتستعيد كيانها مع على بك الكبير تصدت له الدولة العثمانية، وأصدرت فتوى بكفره، لأنه كان استورد بنادق من روسيا، ولما حاول محمد على النهوض تصدت له الدولة العثمانية مستعينة بإنجلترا وفرنسا أو بتوافق المصالح بينهم، وما حدث مع أحمد عرابى معروف لنا، لذا لا أستطيع تقبل عملية غسيل تاريخ وسمعة الدولة العثمانية بيننا، ولا أفهم هذا الاحتفاء المبالغ فيه بصاحب «الدولة العثمانية المجهولة». قد تكون مجهولة للعلمانيين الأتراك، لكنها معلومة لنا، نحن كمصريين الذين اكتوينا بها احتلالاً واستبداداً ونهباً.. طوال الحكم العثمانى، أقصد الاحتلال العثمانى لمصر، لم يتم شق ترعة واحدة، لم يقم جسر على النيل، لم يستصلح سهم جديد، لم تظهر مدينة جديدة.