باستثناء المادة التاسعة من وثيقة مبادئ الدستور هناك بدهيات لا يمكن لعقلاء أن يختلفوا عليها إلا أن يكون فى قلوبهم أو عقولهم مرض، ولا أحد - فى اعتقادى - يمكن أن يختلف على الدولة الدستورية، والفصل بين السلطات واعتماد النظام الديمقراطى، والالتزام بالحريات الأساسية وتطبيق العدالة الاجتماعية، والتأكيد على مبدأ التعددية واحترام الأديان السماوية واحترام الآخر، وعدم التخوين أو التكفير، وعدم التمييز بين المواطنين فى الحقوق والواجبات. وما سبق جميعه يتفق ويتوافق مع مبادئ الشريعة الإسلامية، وتوافق الجميع على أن تكون هى المصدر الرئيسى للتشريع وفقاً للمادة الثانية من دستور 1971. إلا أننا فوجئنا برفض تام - من الإخوان المسلمين وقوى أخرى محسوبة على التيار الدينى – لإصدار هذه الوثيقة بمقولة إن ذلك التفاف على إرادة الشعب، التى ظهرت فى استفتاء 19 مارس! أى التفاف وقد وقّعتم على وثيقة التحالف الديمقراطى التى لم تخرج عن هذه المبادئ، وهل تضمن الاستفتاء عدم جواز اتخاذ خطوات هى فى جوهرها استجابة لمطالب الثوار الشباب والشهداء من أبناء الشعب المصرى، الذين ضحوا بأرواحهم من أجل مصر، وليس من أجل فئة أو طائفة أو ديانة، وبفضل تضحيات هؤلاء الثوار والشهداء تعالت أصوات - لم نكن نسمعها أو نسمع عن أصحابها - بالرفض أحياناً، وبالتهديد فى الكثير من الأحيان؟! ويحق لنا أن نسأل كل هؤلاء: أين كنتم بجماهيركم الغفيرة وقوة إيمانكم من جبروت وطغيان وفساد النظام السابق ورموزه؟ أين كنتم حين استخف بكم وبنا حسنى مبارك ورجاله لمدة ثلاثين عاماً، أين كنتم والكثير منكم كانت تصادر أمواله ويحاكم عسكرياً، ويتم اعتقال زهرة شبابكم وخيرة رجالكم، وأين كانت قوتكم التى تختالون علينا بها الآن، فإن كانت قوة حقيقية فلماذا لم تثوروا؟ لماذا لم تقفوا وقفة رجل واحد فى مواجهة سلطان جائر؟ وكان من حقكم -لو فعلتموها- أن تقودوا الشعب المصرى، وأن تتصدروا المشهد برضا الشعب أما أنكم كنتم شركاء فى الثورة ولستم قادتها فليس من حقكم أبداً إملاء الإرادة على الشعب، وإنما تكون الأمور والقرار تشاورياً وتوافقياً بين جميع شركاء الثورة وهم المصريون جميعاً، وأنتم فصيل منه شأنكم شأن أى فصيل آخر. ونعود إلى السؤال الرئيس: ما سبب رفض التيارات الإسلامية الوثيقة؟ لا أعتقد أن نتائج الاستفتاء لها أى علاقة بهذا الرفض، وإنما اتخذت نتائج الاستفتاء شماعة تُعلق عليها سبب الرفض والسبب الحقيقى- فى اعتقادى- أن الوثيقة ببنودها المختلفة تؤكد أن هناك اختلافاً جوهرياً وأساسياً بين الدولة المدنية التى نريدها والدولة الدينية التى يريدونها ولا يمكن بناء الدولة المدنية فى ظل الدولة الدينية لأن الدولة المدنية تتيح لجميع المواطنين ممارسة عقائدهم وشعائرهم بحرية ودون تمييز وبنفس الشروط على أساس حق الجميع فى المواطنة وبالتساوى بصرف النظر عن أغلبية أو أقلية. والسبب الثانى لرفض الوثيقة أنها انحازت بشكل غير مباشر لتبديد مخاوف أنصار الدولة المدنية، فمصر الآن دولة مدنية على استحياء، وليست -حتى الآن- دولة دينية صريحة لكن هناك استغلالاً للدين فى العمل السياسى من أجل الوصول إلى الحكم. والسبب الثالث للرفض هو أن الوثيقة ترسم إطاراً محدداً للعقد الاجتماعى الجديد الذى سيحكم مصر ويحكم علاقة الحاكم بالمحكوم ويجعلها مدنية ديمقراطية دستورية وليست دينية أو عسكرية. ولأن الرافضين للوثيقة لايمكنهم الجهر بهذه الأسباب فهم يتمسكون بنتائج استفتاء 19 مارس ويتخذونها شماعة لتعليق الرفض عليها. إن إقامة الدولة التى يحكمها الدستور والقانون الذى يستمد أحكامة من مبادئ الشريعة الإسلامية السمحة التى توجب الشورى ولا تميز بين البشر -فلا فضل لعربى على أعجمى إلا بالتقوى- وكذلك حرية العقيدة «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» وقوله تعالى مخاطباً الرسول الكريم «وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ» - إن إقامة هذه الدولة المدنية هى الكفيل وحده بالقضاء على الفتنة الطائفية وتحقيق التقدم والرفعة والبناء لوطننا ويطمئن الجميع من مخاوف الدولة الدينية أو العسكرية، وهى السبيل الوحيد إلى تحقيق الدولة المدنية العصرية التى نحلم بها جميعاً.