سعر الذهب اليوم في منتصف التعاملات.. عيار 21 يسجل 4645 جنيهًا للجرام    98 شهيدا و511 مصابا برصاص إسرائيل في غزة خلال 48 ساعة    النائب أيمن محسب: مصر والسعودية ستظلان حجر الزاوية للأمن والاستقرار بالمنطقة    الأهلي يتفق مع كوزموس الأمريكي على تفاصيل صفقة وسام أبو علي والانتقال بات قريبا    ضبط قائد سيارة تعدى بالضرب على طفل بائع حلوى بالغربية (فيديو)    إيجالو يلوم أوسيمين: كان عليه جمع ثروة ضخمة في السعودية    رسميًا.. تعويضات إضافية لعملاء الإنترنت المنزلي (تعرف عليها)    صدقي صخر صاحب شركة إعلانات في «كتالوج» مع محمد فراج    حالة الطقس اليوم السبت 19 يوليو 2025.. الأرصاد توجه نصائح مهمة للمواطنين    مطالبا بتعويض 10 مليارات دولار.. ترامب يقاضي «وول ستريت جورنال» بسبب جيفري إبستين    افتتاح نموذج مصغر من المتحف المصري الكبير في العاصمة الألمانية برلين الاثنين المقبل    طب قصر العيني يبحث مع مسؤول سنغالي تعزيز التعاون في التعليم الطبي بالفرنسية    Carry On.. مصر تقترب من إطلاق أكبر سلسلة تجارية لطرح السلع بأسعار مخفضة    وزير الكهرباء يبحث الموقف التنفيذي لتوفير التغذية لمشروعات الدلتا الجديدة    اعرف مرشحك.. أسماء المرشحين في انتخابات الشيوخ 2025 بجميع المحافظات | مستند    ليلى علوي نجم الدورة 41 لمهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط    بالصور.. نانسي عجرم تستعرض إطلالتها بحفل زفاف نجل إيلي صعب    إلهام شاهين وابنة شقيقتها تحضران حفل زفاف في لبنان (صور)    أسباب الشعور الدائم بالحر.. احذرها    حملات مكثفة بالبحيرة.. غلق عيادات غير مرخصة وضبط منتحل صفة طبيب    الحكم على الرئيس البرازيلي السابق بوضع سوار مراقبة إلكتروني بالكاحل    تعاون أكاديمي جديد.. بنها ولويفيل الأمريكية تطلقان مسار ماجستير في الهندسة    طفل يقود تريلا.. الداخلية تكشف ملابسات فيديو صادم | فيديو    أسيل أسامة تحصد ذهبية رمي الرمح بالبطولة الأفريقية في نيجيريا    محافظ البنك المركزي يشارك في الاجتماع الثالث لوزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية لمجموعة العشرين "G20"    رسالة مؤثرة وتحية ل"الكينج".. أنغام تتألق بافتتاح مهرجان العلمين الجديدة    القاهرة الإخبارية: وقف الحرب لم يضع حدًا للاشتباكات في السويداء    وزارة الصحة": إجراء 2 مليون و783 ألف عملية جراحية ضمن المبادرة الرئاسية لإنهاء قوائم الانتظار منذ انطلاقها في يوليو 2018    الاستهدافات مستمرة.. غزة تدخل مرحلة الموت جوعًا    تحليق مكثف للطيران الإسرائيلي فوق النبطية والحدود الجنوبية للبنان    اندلاع حريق داخل مخزن فى البدرشين والأطفاء تحاول إخماده    "بائعة طيور تستغيث والداخلية تستجيب".. ماذا حدث في المعادي؟    إعادة الحركة المرورية بالطريق الزراعي بعد تصادم دون إصابات بالقليوبية    ب4 ملايين جنيه.. «الداخلية» توجه ضربات أمنية ل«مافيا الاتجار بالدولار» في المحافظات    "استعان بأصدقائه".. كيف يعمل رونالدو على إعادة النصر لمنصات التتويج؟    بعد فسخ عقده مع القادسية السعودي.. أوباميانج قريب من العودة لمارسيليا    إسرائيليون يعبرون إلى الأراضي السورية بعد اشتباكات مع جيش الاحتلال    «سباكة ولحام ونجارة».. بدء الاختبارات العملية للمرشحين للعمل في الإمارات (تفاصيل)    وزيرة التنمية المحلية تبحث التعاون في نظم المعلومات الجغرافية مع شركة Esri    توقيع اتفاقيات تعاون بين 12 جامعة مصرية ولويفيل الأمريكية    بسبب تشابه الأسماء.. موقف محرج للنجم "لي جون يونغ" في حفل "Blue Dragon"    الواعظة أسماء أحمد: ارحموا أولادكم صغارًا تنالوا برهم كبارًا.. والدين دين رحمة لا قسوة    عاوزه أوزع الميراث على البنات والأولاد بالتساوى؟.. أمين الفتوى يجيب    ليفربول يعزز هجومه بهداف أينتراخت    التعليم: إتاحة الاختيار بين الثانوية والبكالوريا أمام طلاب الإعدادية قريبا    الصحة: إجراء 2 مليون و783 ألف عملية جراحية ضمن المبادرة الرئاسية لإنهاء قوائم الانتظار    «الرعاية الصحية»: إنشاء مركز تميز لعلاج الأورام في محافظة أسوان    «350 من 9 جامعات».. وصول الطلاب المشاركين بملتقى إبداع لكليات التربية النوعية ببنها (صور)    شاهد أعمال تركيب القضبان بمشروع الخط الأول بشبكة القطار الكهربائى السريع    هل يُفسد معسكر إسبانيا مفاوضات بيراميدز مع حمدي فتحي؟    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 19-7-2025 في محافظة قنا    البطاطس ب9 جنيهات.. أسعار الخضروات والفاكهة اليوم السبت في سوق العبور للجملة    «مرض عمه يشعل معسكر الزمالك».. أحمد فتوح يظهر «متخفيًا» في حفل راغب علامة رفقة إمام عاشور (فيديو)    أول ظهور ل رزان مغربي بعد حادث سقوط السقف عليها.. ورسالة مؤثرة من مدير أعمالها    كل ما تريد معرفته عن مهرجان «كلاسيك أوبن إير» ببرلين    عميد طب جامعة أسيوط: لم نتوصل لتشخيص الحالة المرضية لوالد «أطفال دلجا»    داعية إسلامي يهاجم أحمد كريمة بسبب «الرقية الشرعية» (فيديو)    أحمد كريمة عن العلاج ب الحجامة: «كذب ودجل» (فيديو)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كهرمان
نشر في المصري اليوم يوم 11 - 06 - 2010

فى الأزمنة السحيقة قبل أن يبدأ عدّ السنين وقبل أن يوجد البشر أنفسهم على سطح الأرض، كانت ثمة فراشة رقيقة تحلق فوق الغابة الخضراء، وحينما حطت على جذع إحدى الأشجار الصنوبرية أحست بمادة لزجة كثيفة تلتصق بها وتغمرها وتشدها بقسوة إلى جذع الشجرة، لم تكن تدرى أنها التصقت بمادة صمغية، راحت تتلوى دون جدوى، وحينما أدركت أنها ستقضى نحبها كانت ثمة نظرة حالمة تتشكل فيها معبأة بالحنين إلى العشب الأخضر والورد الأحمر والسماء الزرقاء وماض حبيب يتلون بأجمل ألوان الطيف.
حينما أبصرها للمرة الأولى وقعت تعويذة السحر: شخصت عيناه وتسمرت قدماه ثم تبعها كالمسحور. لا يدرى لماذا قفزت صورة جده لخاطره منذ أول لحظة؟ تتوسط الجدار وكأنها تتوسل إليه ألا ينساه أبداً. كان مريضاً فى أيامه الأخيرة. شاحب الوجه مرهف الملامح. فى عينيه تعبير حاول - لردح من الزمان - اقتناصه. الأرجح أنه كان يموت ويعلم أنه يموت، وإلا فما سر تلك النظرة العميقة التى تتجاوز الكاميرا بل والعالم أجمع؟
دلفت السيدة إلى أحد محال الملابس النسائية فمضى خلفها متظاهراً بمشاهدة الفاترينة ووجيب قلبه يشتد. ربما لم يرها من قبل، ربما لا يعرف اسمها، ولكنه يعرفها حق المعرفة، معرفة تفوق الرؤية والمشاهدة.. ولكن متى وأين؟
غادرت المحل فتتبعها، راحت تتسكع وتتأمل واجهات المحال التجارية، لم يتصور نفسه يتبع سيدة قط؟ لم يكن سريع التأثر بالنساء ولا عرف ذلك الشىء الذى يسمونه الحب. ربما حذرا من كلمات متناثرة سمعها عن مصير جده الراحل الذى قضى نحبه عشقاً قبل أن يتم الثلاثين.
لم يتحدث أحد صراحةً حرصاً على مشاعر الجدة الموغلة فى الصمت، ولكنها كلمات متناثرة رسخت فى ذاكرته. قِيل إن جده عشق امرأة أخرى. وقِيل إنها كانت ساحرة وإلا فما تفسير هيامه الحزين بامرأة مستحيلة؟ يضيع، يذبل رويداً كشجرة أعلنت رغبتها الصريحة فى الموت، باكياً بين يدى زوجته كلما شاهد انكسارها، ولكن لماذا يتذكره الآن؟
وفكّر كيف يبرر تتبعه إياها لو رآه أحد - وهو الرجل الوقور - فى هذا الموقف المشين؟ سيقول إنه يعرفها منذ عهد بعيد. وجهها منقوش كالوشم على روحه، وشم يستحيل إزالته، لو رأتها الطيور الجارحة لهجرت الصيد ولزمت التغريد، ولو رآها السندباد لأحرق سفنه.
يتذكر - ودقات قلبه تتسارع – صورة وجدها فى كتاب سميك يخص جده، صورة مخبأة بعناية لامرأة لا يعرف اسمها، كانت ترتدى أزياء هذه الأيام ولاريب أنها كانت أنيقة بمقاييس الأربعينيات، تأمل وجهها طويلاً، كانت عيناها متسعتين بشكل مدهش، ورغم سحر النظرة فقد كان هناك ظلٌ من قسوة، ربما نقلت شفتاها المزمومتان إيحاءً بالحزم، مع تلك الخصلة المتهدلة على جبينها فى إهمال متعمد، بشكل غامض أحس بأن هذه المرأة حبيبة جده وقاتلته.
وانتبه من خواطره حينما خرجت تحمل لفافة كبيرة أنيقة فى يديها. وانتابه القلق حين أدرك أنها توشك أن تُفلت منه.. هل يحادثها؟ إنه لم يجسر من قبل على مخاطبة سيدة لا يعرفها، والأهم ماذا يريد منها بالتحديد؟
كانت الشمس تغمر الطرقات، والمارة يتجاوزونه مسرعين إلى غاياتهم المجهولة، هو وحده يستشعر الحيرة الموحشة والقلق القاتل.
لم يحاول أبداً أن يعلن اكتشافه لصورة حبيبة جده. بشكل ما اعتبرها سره الصغير المشترك مع جده الذى لم يره أبداً، وأسعده أن يجمعهما شىء. أحيانا كان يغلبه الحنين فيقوم بإنزال صورة جده الحالمة من قلب الجدار ويضعها بجوار حبيبته القاسية.
مرة تجاسر وأخرجها من إطارها، أمسكها فى عناية بيده اليمنى وباليد الأخرى أمسك صورتها، بحرص وضعهما متقابلتين واحتال لتتلامس الشفتان، كان واثقاً أنه يتوهم، ولكن ملامح جده ازدادت رهافة وبروزا، وعكست عيناه صفاءً مشعاً، وخُيل إليه أنه يتنهد!. تملكه الفضول مدققاً فى صورتها التى لم تتغير سماتها.. النظرة المشوبة بقسوة، الشفتان المزمومتان بحزم، وخصلة الشعر المتهدلة فى إهمال متعمد.
تفتح باب سيارتها، تضع اللفافة على المقعد المجاور، توشك أن تذهب كسحابة عابرة أمطرت ومضت، صبت العشق على الأرض السجينة وتحررت من طاقة مجهولة.
يذكر أنه كان يقود سيارته ذات صباح شتائى ممطر، وبرغم المطر المنهمر لمح - بطرف عينه - شجرة برتقال مثمرة فتوقف، لم يكن قد رأى برتقالاً من قبل إلا لدى الفاكهى، خرج من سيارته وراح يتأمل ثمرات البرتقال البكر مغسولة، براقة، عاشقة. بدا له المشهد غير أرضى ومعجزاً، واستنشق رائحة الخلق الأولى.. ترى لماذا يتذكر هذا المشهد الآن؟
يتذكره لأن ما يفعله معجزة بمقاييس رجل خجول مثله. يقف جوار نافذة السيارة حيث تجلس فى مقعد القيادة. تعبث بحقيبتها الأنيقة. تهم بوضع المفتاح حين تلاحظه، ترفع إليه عينين متسائلتين فتربكه النظرة، يبتلع خجله ويتمتم بصوت مرتبك:
- أرجو المعذرة.
- هل تعرفنى؟ قالت فى صوت واثق.
- أعرفك؟ نعم أعرفك. وجهك شاهدته مراراً، قبل أن تولدى يا ليلى (لماذا قال هذا الاسم؟). حينما كنت جنيناً بلا ملامح يتخلق فى رحم أمك كنت أعرفك، شاهدتك على معابد الفراعنة، ورأيتك تبتسمين فى غموض فى لوحة الجيوكندا.
رمقته فى اهتمام حذر وقالت مرة أخرى:
- لم تجاوبنى، هل تعرفنى؟
ليلى (الآن عرفت اسمها). أيتها السحابة العابرة التى لا تعبأ بعشق البرتقال السجين. أعرف العينين القاسيتين، والشفاه المضمومة على حزم، والخصلة المتأرجحة فى إهمال متعمد. وأعرف أيضاً أنك ساحرة وإلا فكيف غادرت صورة قديمة لتتجسدى امرأة من جديد؟ ولماذا يشحب وجهى الآن شحوب جدى فى أيامه الأخيرة؟
تمالك نفسه بصعوبة وابتسم كالمعتذر:
- آسف.. يبدو أننى أخطأت.
رمقته فى ثبات وهو يبتعد، أدارت مقود سيارتها، حررت فرامل اليد، داست برقة على محرك السرعة، انسابت السيارة فى نعومة وهى تنظر إليه نظرة أخيرة، ثم ابتسمت فى غموض.
مضى يتجول فى الطرقات كالمخمور، يخشى أن يصارح نفسه بالحقيقة المذهلة. كانت المرأة التى زلزلت كيانه وتبعها مأخوذاً تشبه حبيبة جده إلى حد مروع، إلى الحد الذى يخشى أن يقول: إنها هى!!.
يعرف الآن نهاية القصة لأنه شاهدها من قبل. لقد أورثه جده ذلك الحنين الفائق لها وأورثه أيضاً حظه العاثر.
كانت الشمس توشك على الغروب وفريق العمل يتأهب لمغادرة الموقع حينما هتف عالم الآثار مبهوراً وهو يلوح بقطعة نادرة من الكهرمان اكتشفها لتوه تشتمل على فراشة قديمة موغلة فى القدم تحجرت منذ ملايين السنين، ولكن العهود الغابرة لم تنل من نظرة حنين تتحدى الموت، تتحدى السنين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.