إحتدمت الخلافات وزاد الجدال في الأوساط السياسية المصرية هذه الأيام حول موضوع " الإنتخابات أولا " أم " الدستور أولا "، وأصبح من الواضح أن هذا الخلاف قد شمل الجميع تقريبا. وبالنظر سريعا إلى الساحة السياسية في مصر نجد أن هناك ثلاثة إختيارات مطروحة حاليا تتعلق برسم خارطة الطريق بعد الثورة؛ وهذه الإتجاهات هي: 1- إجراء إنتخابات الرئاسة أولاً: يقوم فيها الشعب بإنتخاب رئيس الجمهورية ونائب له أولاً لإدارة شؤون البلاد في الفترة القادمة، وتجرى بعدها إنتخابات مجلس الشعب ثم وضع الدستور. (إقتراح السيد عمرو موسى). 2- إجراء إنتخابات مجلس الشعب أولا: يقوم فيها الشعب بإنتخاب ممثلين عنه في البرلمان لتشكيل لجنة لوضع الدستور، وتجرى بعدها إنتخابات الرئاسة ثم وضع الدستور. (إقتراح المنادين بالتصويت بنعم في "التعديلات الدستورية" الأخيرة). 3- وضع دستور توافقي أولا: يقوم فيها الشعب - تحت إشراف المجلس العسكري - بتشكيل هيئة تأسيسية تشمل 100 عضو يمثلون جميع أطياف المجتمع و 50 عضو من الفقهاء القانونيين لوضع الدستور أولا، وتجرى بعدها إنتخابات مجلس الشعب ثم إنتخابات الرئاسة. (إقتراح فقهاء القانون الدستوري). وتجنبا للدخول في تفاصيل المناقشات حول حيثيات إتخاذ القرار الصائب في هذا الشأن أود الإشارة الى تصور الهدف الحقيقي الذي يريد الجميع الوصول إليه، ومن ثم يمكن أن نفكر في التسلسل الذي سيؤدي الى ذلك الهدف. فإن أراد المصريون نظاما سياسيا يراهنون فيه على شخص الرئيس القادم ورؤيته لتشكيل مستقبل البلد فعليهم بإجراء إنتخابات الرئاسة أولا، وأنا أرى أن في هذا مجازفة كبيرة، فقد يكون الرئيس المنتخب عند حسن ظن الشعب وقد يكون غير ذلك، فهذا الطريق لا يضمن تحقيق المطالب الشعبية، بل قد يعيد الأمور إلى صورة مشابهه إلى ما كانت عليه قبل الثورة. أما إن أرادوا نظاما سياسيا يمثل نسبة كبيرة من الشعب المصري، ولنقل مثلا الطبقة المتوسطة والطبقة الفقيرة، أو المسلمين، أو رجال الاعمال الأثرياء، أو خليط من هذا وذاك، فالطريق لذلك إذا هو إجراء إنتخابات مجلس الشعب أولا، وهو ما سوف يؤدي إلى جعل تلك الفئات المنتخبة هي المسؤولة عن وضع الدستور الجديد الذي ستسير عليه البلاد في الحقبة القادمة. وأنا أرى في ذلك تجاهلا وظلما لكل من لن يستطيع النجاح في الإنتخابات ولمن لا يدرك كيف ينجح أو يمثل في البرلمان - وخصوصا ممن قاموا بالثورة - بأن يحرم من أن يكون له دور في تأسيس مستقبل بلده. أما إن أراد المصريون نظاما يمثل "كل طوائف الشعب المصري" ويعبر عنهم جميعا فعليهم بالدستور أولا، شريطة أن يوضع ذلك الدستور بصورة ترضي كل تلك الطوائف المختلفة. وعلى الرغم من صعوبة تحقيق ذلك التوافق إلا أنه إذا نجح الشعب في ذلك فسوف يجعل كلا من الرئيس وأعضاء البرلمان المنتخبين ملزمين بهذا الدستور الشعبي، وبذلك سيحكم الدستور كلا من الرئيس ومجلس الشعب، ولن يتحكم الرئيس أو مجلس الشعب في الدستور. يتضح من ذلك أن وضع دستورٍ توافقيٍ أولا هو الإختيار الأكثر شمولية، ويضع أسسا سليمة وعادلة للجميع من بداية طريق النهضة بعد الثورة، مما يقلل من حدوث أية مشكلات أو تقلبات في المستقبل، أما إجراء الإنتخابات أولا، والتي لا يتوقع نتائجها أحد، فسيؤدي غالبا إلى وضع دفة الأمور في أيدي أطراف وفئات بعينها دون الأخرى سيوكل إليها وضع الدستور وتشكيل الطريق السياسي للبلاد فيما بعد. وهذا بدون شك فيه محاباة وميل لأطراف وفئات من الشعب دون أخرى، ولا يؤدي إلى الإستقرار المنشود. لن أخوض في الحديث عن الإستفتاء على التعديلات الدستورية ونسبة ال77% - والتي يقول البعض أن المنادة بالدستور أولا هو إلتفاف عليها - وذلك لأسباب عدة أبسطها أن الشعب حينها لم يكن يستفتى على " الدستور أولا أم الإنتخابات أولا" ؛ الشعب خرج ليقول نحن موافقون على تعديلات في دستور 1971 من أجل الإستقرار، ولكي نعود إلى حياتنا وأعمالنا، وكي نحمى المادة الثانية من الدستور (والتي لم تكن مطروحة من الأساس)، ثم جاء الإعلان الدستوري بعد ذلك فتجاوز نتيجة الإستفتاء، بل واتخذ طريقا أقرب لما كان ينادي به من صوتوا ب "لا" على تلك التعديلات.! أو قل إن شئت: أن المجلس العسكري قد إختار بذلك الإعلان الدستوري طريقا توافقيا بين الطرفين. هناك أمر آخر في غاية الأهمية؛ بمشاهده تزايد سخونة التنافس بين حملات مرشحي الرئاسة ومؤيديهم - وتزامنا مع حدة الخلاف حول موضوع الدستور - علينا أن ندرك أن هناك حالة من العصبية الشديدة والتوتر بين معظم المصريين بخصوص شخص الرئيس القادم وتوجهاته وإنتماآته، وسبب ذلك أن هناك مصريون ما زالوا يرون أن رئيس البلاد هو الشخص الذي سيكون بيده مقاليد كل أمور الدولة، وصاحب الحق في إتخاذ كل القرارات، وهذا للأسف جزء كبير من فهمنا الخاطئ للسياسة الذي نشأنا عليه، ويوضح عدم معرفتنا بمبدأ "توزيع وتوازن السلطات" الغائب عن أذهان الكثيرين من الشعب. فإذا أخذنا في الإعتبار ذلك التصور الشائع أن وضع الدستور الجديد وتشكيل مستقبل الدولة السياسي سيتم تحت أوامر وتوجيهات "سيادة" الرئيس فلك أن تتخيل مدى الإنفعال والعصبية التي ستنتاب الكثيرين نتيجة لذلك مما يجعلهم متعصبون ومنحازون للمرشح الذي يعتقدون أنه سيؤمن وضع دستور عادل يضمن لهم حقوقهم، حتى وإن لم يكن أصلح من يشغل ذلك المنصب الرفيع. ولذلك أرى أن وضع الدستور أولا سوف يهدئ الأوضاع ويقلل كثيرا من توتر الشعب وتركيزه فقط على هوية الرئيس القادم لتحقيق أهدافه. أي أن "الدستور أولا" سيساعد على إنتخاب "موظف" لإدارة الدولة وليس "ملكا" يملك الدولة. وبذلك نتحرر من رهن مستقبل الدولة على هوية الأشخاص والأسماء، ويتأصل لدينا مبدأ إحترام دولة القانون والدستور.. وهو ما يوجد في الدول المتقدمة، ولا يوجد لدينا. لا سبيل إلى النجاح سوى في تكوين إتفاق وطني بين كل الأطراف والقوى السياسية في مصر (قديمها وحديثها، شبابها وشيوخها، محافظيها ومتحرريها، أغنيائها وفقرائها، ومتمرسيها ومستجديها..) كي يعملوا معا لتأسيس دولة جديدة يضمن فيها الدستور الحق والعدل لكل المصريين، ولن يتم ذلك إلا عن طريق "الإتفاق بين الجميع أولا" والذي هو "دستور" في ذاته. إتفقوا هداكم الله. محمد منصور http://masryyat.blogspot.com/