المتابع للتصريحات المتكررة على لسان قيادات الإخوان المسلمين هذه الأيام يلاحظ أنها تتركز فى المجمل حول التأكيد على ضرورة إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية قبل إعداد دستور جديد للبلاد، بالإضافة إلى الترويج المبكر لمرشحى الجماعة فى انتخابات الشعب والشورى والحديث الزاهى والمزدهى عن معطيات قوتها وحظوظها فى حصد النسبة التى تريدها من المقاعد داخل المجلسين. والجماعة ليست بدعاً فى ذلك بل يشاركها فى هذا النمط من الأداء الكثير من القوى السياسية والحزبية، التى تتلهف على حكم مصر ما بعد الثورة، لكننا نركز الحديث عليها لا لشىء إلا لأنها القوة الكبرى، أو هكذا تقدم نفسها، وتحدد وزنها على خريطة المشهد السياسى الحالى. واللافت للنظر أنه فى إطار انشغال الإخوان بالدستور والانتخابات أصبحت جهود الإصلاح والتغيير منوطة بأفراد وقطاعات اجتماعية آلت على نفسها مطاردة الفاسدين وتصحيح الأوضاع التى اعوجت داخل مؤسسات الدولة، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من ثروات المصريين، التى تم سلبها ونهبها بصورة ممنهجة خلال الثلاثين عاماً الماضية، واسترداد أموال المعاشات التى استولت عليها وزارة المالية، والدفاع عن حق المصريين فى حياة كريمة يحصلون فيها على حد أدنى معقول من الدخل ومستوى مناسب من التعليم والرعاية الصحية، والدعوة إلى إعادة النظر فى اتفاقية السلام مع إسرائيل، التى أهدرت الكثير من الحقوق الثابتة لمصر، ويمارس هؤلاء الأفراد والفئات دورهم فى التغيير والإصلاح فى المرحلة الراهنة من خلال تحريك الدعاوى القضائية ضد ناهبى أموال الشعب وثرواته، وتزويد الصحفيين بملفات الفساد التى تراكمت عبر السنين الماضية، بالإضافة إلى تنشيط مظاهر الاحتجاج والتظاهر السلمى من حين إلى آخر لإنعاش وعى المواطن بقضية الإصلاح وحشده فى اتجاه تأييدها، ويفعل هؤلاء ذلك فى ظل غياب واضح وتقصير مفهوم من جانب القوى السياسية التقليدية، التى تأتى الإخوان على رأسها! وليس ثمة جديد فى أداء «الإخوان» التى ارتدت ثوب المعارضة فى عصر «المخلوع»، وتستعد الآن للتسربل بلباس السلطة. فقد عاشت عمرها تمارس المعارضة بطريقتها الخاصة، واختزلت كل أحلامها فى الحصول على عدة كراسى داخل مجلس الشعب أو الشورى حتى لو اقتضى ذلك عقد صفقات مع النظام القائم الظالم الذى كان يديره مبارك، والذى كان يظلم أول ما يظلم الإخوان أنفسهم حين كان يزج بهم فى السجون، ويقدمهم للمحاكمات العسكرية. وظل الإخوان عاجزين العجز كله عن التحرك بشكل فاعل ضد النظام، ولم تجرؤ الجماعة أصلاً على طرح فكرة الإطاحة به، بل كانت دائبة الحديث عن إصلاحه من داخله، رغم قناعتها بأن هذا النظام غير قابل للإصلاح بحال. لم نسمع أن الإخوان قبل الثورة هتفوا بسقوط مبارك وطالبوا برحيله، بل كانت حركة كفاية أول من صرخ بذلك . لم نسمع أن الإخوان دعوا إلى إضراب عام من أجل سقوط النظام بل فعلتها حركة 6 أبريل. وبقدر ما أتاحت الثورة للإخوان وغيرها من القوى التى تم إقصاؤها طيلة عهد الرئيس المخلوع من فرص للوجود العلنى، بقدر ما بدأت فى كشفها أمام الرأى العام. فقد بدا الإخوان وكأنهم لا هدف لهم سوى الانتخابات التشريعية والفخر بقدرتهم على النجاح فى انتخابات الرئاسة إذا قدموا مرشحاً من بينهم لها، لكنهم يتنازلون عن ذلك الآن، أما السعى نحو إصلاح الواقع الفاسد الذى ورثناه عن نظام المخلوع، فليس على أجندة الاهتمامات الآن. فلا يهم أن يتواصل وجود فلول الحزب الوطنى فى جميع مواقع الدولة دون استثناء، لكى يعدوا العدة للانقضاض على حياتنا الجديدة من أجل إفسادها، لا يهم أن تتواصل معاناة المصريين الذى يتسولون حداً أدنى للرواتب يساعدهم على العيش كآدميين، لا يهم أن تضاف ملايين جديدة إلى ملايين الشباب العاجزين عن الزواج بل المهم ألا يتزوج الإخوانى من فتاة غير إخوانية، حتى لا يتلوث النوع أو العرق!، لا يهم أن تحل مشكلات الأطباء أو الإعلاميين أو أساتذة الجامعات، بل المهم أن تتوقف المظاهرات والاحتجاجات الفئوية، حتى تتهيأ الظروف لإجراء الانتخابات، وحصد مقاعد مجلس الشعب. وقد يقول قائل منهم إن الجماعة سوف تقوم بالتغيير والإصلاح بعد أن تصل إلى الحكم. وهو كلام غير مقنع على وجه الإطلاق. ولو كان ذلك كذلك لرضى الرسول، صلى الله عليه وسلم، بالملك عندما عرض عليه أهل مكة أن يجعلوه ملكاً عليهم إذا أراد، فرفض فى شمم وأكمل أولاً مسيرة إصلاحه حتى دانت له مكة بشعابها ليعطى البشرية درساً فى السعى الحقيقى من أجل الإصلاح العقائدى والاجتماعى والإنسانى، وتأكيد مفهوم العدل فى الأرض . لقد كان من الممكن أن يقبل النبى، صلى الله عليه وسلم، بالملك لكى يتمكن من إصلاح الواقع المكى، الذى يجلس على رأس نظامه بصورة أوقع وأسرع، لكنه لم يفعل لأنه ببساطة لم يرد أن يضع العربة أمام الحصان، كما يعمل بعض الساعين إلى التغيير اليوم. لقد غضب البعض مما ذهبت إليه فى المقال الماضى من أن جماعة الإخوان تسير فى طريق التفكك، ولست أعبر بذلك عن أمنية، لا سمح الله، لأننى أريد للكل أن يعمل، وأن يقدم لهذا البلد، بل أشرح رؤيتى كمحلل يتوقف أمام العديد من الشواهد التى تؤكد أن الظهور العلنى للإخوان واقترابهم من مراكز صناعة القرار بعد ما يزيد على ثمانين عاماً من الإقصاء وضعهم على محك حقيقى . وربما كان من المبرر بالنسبة للبعض هذا الانجراف من جانب الجماعة نحو المشاركة، إن لم يكن السيطرة الكاملة على الحكم، بعد هذه السنين الطويلة من الحرمان، لكننى لا أقيم المشهد على هذا النحو، بل أرى أن الأوجه للجماعة الآن أن تقوم بدورها فى إصلاح الواقع وإعادة بنائه، والاجتهاد فى حل مشاكله، وسوف يأتى الحكم بعد ذلك كتحصيل حاصل، أما السير فى طريق الحكم قبل الإصلاح فسوف يؤدى بالإخوان إلى التفكك، ولهم فى الحزب الوطنى أسوة ليست ب«الحسنة»!