تبدو مصر اليوم فى حاجة ماسة، ربما أكثر من أى وقت مضى، إلى لمْلمة أوراقها المبعثرة وإعادة ترتيب أولوياتها بطريقة تسمح لها بحركة واثقة على طريق بناء المستقبل، لذا آمل أن تكون القوى السياسية المهمومة بمستقبل هذا الوطن قد بدأت تقتنع بأنه لم يعد أمامها من خيار آخر سوى التوافق على آليات محددة وواضحة لصياغة دستور جديد للبلاد يؤسس لنظام ديمقراطى يليق بثورة 25 يناير. ولأنه آن الأوان كى يدرك الجميع أن كفة المصالح العليا للوطن يجب، خصوصا فى تلك اللحظة التاريخية الفارقة، أن تعلو فوق أى مصالح حزبية أو شخصية ضيقة، فقد بات من الضرورى أن يتحلى الجميع بما يكفى من المرونة للتوصل إلى حلول وسط تسمح بالشروع فورا فى اتخاذ الترتيبات اللازمة للبدء فى صياغة دستور جديد، دون أن يبدو ذلك كأنه انتصار لفريق على فريق أو آخر. وأظن أن بإمكاننا أن نصل إلى هذه اللحظة التوافقية إذا تحلينا ببعض الصبر، وبالكثير من حسن النية. لقد أصر البعض، ومازال، على تصوير وجهة النظر المطالبة بوضع دستور جديد للبلاد قبل الإقدام على أى انتخابات برلمانية أو رئاسية كأنها محاولة للانقلاب على قواعد الديمقراطية، والتفاف على نتائج الاستفتاء، وهو إصرار ليس له ما يبرره على الإطلاق. فلا توجد، فى تقديرى، علاقة مباشرة بين نتيجة الاستفتاء ومطلب «الدستور أولاً»، فإذا نظرنا إلى هذه القضية من منظور قانونى بحت فمن السهل أن نكتشف أن الاستفتاء سقط مع النتائج المترتبة عليه، بمجرد صدور إعلان دستورى لاحق أصبح بمثابة دستور مؤقت للمرحلة الانتقالية. ولأن الإعلان لم يُطرح للاستفتاء يتعين التعامل مع مواده على قدم المساواة بصرف النظر عما إذا كان الاستفتاء جرى على بعضها قبل صدوره أم لا، فإذا أضفنا إلى ذلك أن الإعلان الدستورى تعامل بانتقائية مع نصوص المواد التى تم الاستفتاء عليها، بدليل الاختلاف الواضح بين نص المادة 189 المعدلة من الدستور ونص التى تقابلها فى الإعلان الدستورى وهى المادة 60، لأصبح من السهل علينا أن نستخلص أن القضية محل الخلاف لا تتعلق برغبة الأقلية فى التمرد على إرادة الأغلبية بقدر ما تتعلق بالحرص على تفادى الدخول فى متاهات غير مأمونة العواقب. كثيرون ممن صوتوا ب«نعم» فى الاستفتاء على التعديلات الدستورية تصوروا أن التصويت ب«لا» يتيح للقوى «العلمانية» فرصة للانقضاض على المادة الثانية من الدستور، ومن هنا يأتى حرصهم على التمسك بالانتخابات البرلمانية أولاً، على أمل أن تسفر هذه الانتخابات عن أغلبية تمكنهم من عدم المساس بهذه المادة. غير أن هذه القراءة لنتائج الاستفتاء هى، فى تقديرى، خاطئة تماما لأنها بنيت على مخاوف تنتمى إلى عالم الأوهام أكثر مما تنتمى إلى عالم الواقع. وأظن أنه بات واضحا الآن، بما لا يدع أى مجال للشك، أن المادة الثانية من الدستور لم تعد محل اعتراض من جانب أحد، وبات من السهل جدا الحصول على توافق وطنى يقضى بالإبقاء على نص المادة الثانية من الدستور كما هى دون تغيير، مع إضافة مواد جديدة للتأكيد على أنه لا يوجد فى نص الدستور الجديد المزمع صياغته ما قد يُفسَّر على أنه ينطوى على أى نوع من أنواع التمييز بين الديانات والطوائف المختلفة. فى سياق كهذا، يتعين فهم شعار «الدستور أولاً» من منظور براجماتى وإجرائى، وليس من منظور عقائدى أو طائفى، وهو ما يتضح من الاعتبارات التالية: 1- فالدستور «رسم هندسى» يحدد شكل البيت أو «النظام السياسى» المطلوب بناؤه. ولأن عملية البناء لا تتم إلا وفق تصور مسبق، فمن الضرورى إقرار الرسم أولا قبل الشروع فى عملية البناء. 2- والدستور «عقد اجتماعى» بين جميع أطراف العملية السياسية، وهو ليس عقد إذعان وإنما عقد تراض يتعين توافق جميع الأطراف على جميع بنوده قبل وضعه موضع التنفيذ. وللتعرف على حجم العراقيل «الإجرائية» التى قد تظهر على الطريق فى حال الإصرار على «الانتخابات البرلمانية أولاً» تعالوا نتأمل الحقائق التالية: 1- ستجرى هذه الانتخابات فى ظل أوضاع رسخها نظام سقط، فهناك مجلس شورى لا ضرورة له ولا فائدة ترجى منه، ونسبة 50% من المقاعد للعمال والفلاحين لم يعد لها ما يبررها، وكوتة للمرأة انتفت الحاجة إليها، فما الداعى لكى يصبح أول برلمان بعد الثورة صورة طبق الأصل من برلمان ما قبل الثورة إذا كان بالإمكان تغييره من خلال دستور جديد. 2 - إجراء الانتخابات الرئاسية قبل إقرار الدستور الجديد يعطى للرئيس المنتخب صلاحيات أوسع مما قد يكون مطلوبا أو ملائما. 3- إجراء انتخابات برلمانية ثم رئاسية قبل الاتفاق على دستور جديد سيترتب عليه حتماً ضرورة إعادة هذه الانتخابات مرة أخرى وفقا لمتطلبات الدستور الجديد. 4- منح البرلمان القادم، الذى سيتشكل فى ظل مرحلة انتقالية تختلط فيها الأوراق وتتسم بالضبابية، سلطة مطلقة فى تشكيل اللجنة التأسيسية المكلفة بوضع الدستور الجديد، ليس هو الخيار الأفضل، ويثير مشكلات قانونية عديدة قد تؤدى إلى الطعن فى دستورية اللجنة التأسيسية نفسها أو التقليل من مصداقيتها على الأقل. ولأن معظم هذه العيوب يمكن تلافيها، بالاتفاق على صياغة دستور جديد أولا قبل الشروع فى أى انتخابات، نأمل أن تراجع كل القوى السياسية، بما فيها جماعة الإخوان المسلمين، وبقية فصائل التيار الإسلامى، مواقفها الأولية، وأن تعيد حساباتها فى ضوء المصالح العليا للوطن، وأن تتحاور معا بحسن نية للعثور على مخرج من المأزق الذى تتجه إليه البلاد. ويبدو أن العديد من القوى الوطنية بدأت تستشعر لحسن الحظ خطورة هذا المأزق إن استمرت الأوضاع على ما هى عليه، وأصبحت هناك قناعة متزايدة بحتمية خروج الجميع من الخنادق الفكرية التى وضعوا أنفسهم فيها، وهو ما تبدّى بشكل واضح فى الاجتماع الأخير للأطراف المشاركة فى «الجمعية الوطنية للتغيير» وبعض الشخصيات المستقلة، فوفقاً للمعلومات المتوافرة أسفر هذا الاجتماع عن نتائج أهمها: 1- الاتفاق على تشكيل لجنة لإعداد مشروع قانون متكامل لانتخابات مجلس الشعب توقع عليه كل القوى السياسية. 2- تشكيل لجنة أخرى لإزالة المخاوف حول الدستور الجديد، بتحديد مجموعة من المبادئ «فوق الدستورية» يتعين أن تحكم صياغة هذا الدستور. 3- الاتفاق على المعايير التى يتعين توافرها عند اختيار أعضاء لجنة إعداد الدستور الجديد، والسعى لإلزام القوى التى ستدخل مجلس الشعب بهذا الاتفاق لضمان التمثيل المتوازن فى لجنة الدستور لكل الاتجاهات السياسية. 4- تشكيل لجنة للتنسيق فى انتخابات مجلس الشعب، والسعى لأن يكون المجلس الجديد متوازناً قدر الإمكان فى تمثيل مختلف القوى، بما فى ذلك القوى الجديدة التى أفرزتها الثورة. ويبدو أن الوعى بحساسية المرحلة القادمة، وإدراك خطورة الخلافات بين القوى السياسية فى هذه المرحلة، دفعا البعض للحديث عن هدف طموح جدا، هو ضرورة الاتفاق بين القوى الوطنية على رؤية مشتركة لبرنامج للعمل الوطنى خلال السنوات العشر المقبلة، وذلك من خلال وثيقة تكون بمثابة «ميثاق قومى» توقع عليه القوى السياسية ويكون بمثابة موجّه لأنشطتهم وبرامجهم، على أن يتناول طبيعة النظام السياسى المطلوب ومقوماته الأساسية وهوية الدولة وتجسيد ذلك فى الدستور الجديد، وآمل ألا يكون هذا مجرد كلام إنشائى يصعب نقله إلى حيز التطبيق. أنتهز الفرصة لأوجه تحية حارة إلى كل الذين يجاهدون بكل السبل الممكنة للتوصل إلى اتفاق بين القوى السياسية صاحبة المصلحة فى إقامة نظام ديمقراطى حقيقى، ولأنه لن يكون بوسع أى قوة بمفردها أن ترسى دعائم هذا النظام فلا مناص من الحوار معاً إلى أن يتم التوافق على المعالم الرئيسية لدستور يحظى بالإجماع. وأعتقد أن اتفاق جميع القوى السياسية على إصدار بيان يؤكد موافقتهم على الإبقاء على نص المادة الثانية من الدستور كما هو عليه الآن ربما يكون المدخل المناسب لبدء حوار جاد بعيد عن التشنج حول القضايا الأخرى الرئيسية، وهى الأهم. فتعالوا جميعاً إلى كلمة سواء.