يسهل على كل متابع للشأن العام فى مصر أن يلاحظ أن سطح الحياة السياسية الراكد بدأ يموج من جديد، وأن شعاعا من الأمل بدأ يخترق، ولو ببطء شديد، سحب يأس كثيفة كانت ولا تزال تخيم فوق سمائها الملبدة بالغيوم. وفى غمرة هذا الحراك من الواضح أن قطاعات مهمة من النخبة المصرية بدأت تدرك أن ما يجمعها أكبر بكثير مما يفرق بينها، وراحت تنشط فى الوقت نفسه لطرح أفكار يمكن البناء عليها لصياغة مشروع متكامل للخروج من المأزق الراهن. وتبدو هذه النخبة اليوم، فى تقديرى، أكثر اتفاقا من أى وقت مضى حول عدد من الأمور الأساسية، أهمها: 1- أن مصر تواجه أزمة متعددة الأبعاد، وبدأت تنزلق نحو مرحلة خطرة تنذر بانفجار مدوٍ قد يفضى إلى فوضى شاملة. 2- لن يكون بمقدور أحد بمفرده أن ينتشل مصر من هاوية توشك على الوقوع فيها، وبالتالى فإن مسؤولية البحث عن مخرج تقع على عاتق الجميع دون استثناء. 3- تعد الشرعية الدستورية هى المخرج الوحيد الذى يمكن أن يتحلق حوله ويتحمس له ويساهم فيه الجميع باعتباره المدخل الصحيح لبناء دولة قانون تسودها التعددية وتسمح بتداول السلطة واستقلال القضاء. 4- يتطلب الوصول الآمن إلى محطة الشرعية الدستورية المرور بمرحلة انتقالية تبدو ضرورية لإعادة ترتيب الأوراق السياسية والمجتمعية بما يكفل وضع الأسس الكفيلة ببناء دولة حديثة قبل العودة إلى الشعب لإقرار المؤسسات الدائمة للنظام واختيار ممثليه فيها. وبينما تبدو الأمور الثلاثة الأولى محسومة فإن القضايا المتصلة بطبيعة المرحلة الانتقالية لا تزال بحاجة إلى نقاش عميق. ولأن الأستاذ هيكل تناول هذه المرحلة بشىء من التفصيل فيما نشر على لسانه أو بقلمه فى المقال الذى سبق حواراً أجرته معه «المصرى اليوم» مؤخرا، فمن الطبيعى أن يضفى إسهامه حيوية خاصة على نقاش نطالب جميع رموز النخبة المصرية، بشقيها السياسى والفكرى، بأن تنخرط فيه لإلقاء الضوء على أبعاد ثلاثة نراها غاية فى الأهمية، البعد الأول: يتعلق بالمهام المطلوب إنجازها خلال المرحلة الانتقالية، والبعد الثانى: يتعلق بمعايير وطرق اختيار المكلفين بإدارتها، والبعد الثالث: يتعلق بكيفية الوصول إليها وتاريخ إطلاقها. وقبل أن أعلق على ما طرحه الأستاذ هيكل حول هذه الأبعاد الثلاثة ربما يكون من المفيد مقارنته بما سبق أن طرحته منذ عام فى سلسلة مقالات نشرت فى «المصرى اليوم» تحت عنوان: «كيف لمصر أن تخرج من هذا المأزق». فبعد أن شرحت فى مقالة أولى طبيعة وحجم المأزق الذى تواجهه مصر فى المرحلة الراهنة، أوضحت فى مقالة ثانية مدى «الحاجة إلى مرحلة انتقالية» تعالج الأوضاع التى أفضت إلى الخلل الراهن، وتهيئ البلاد لمرحلة جديدة تساعد فى إرساء أسس وقواعد متينة لنظام سياسى جديد أكثر ديمقراطية. ثم اقترحت فى مقالة ثالثة تشكيل «حكومة إنقاذ وطنى» تتولى إدارة المرحلة الانتقالية لمدة ثلاث سنوات، تنتهى بنهاية ولاية الرئيس مبارك فى نوفمبر عام 2011، وطالبت الرئيس مبارك بتقليص صلاحياته خلال هذه الفترة لتقتصر على الأمن القومى والسياسة الخارجية وإعلان تخليه عن رئاسة الحزب الوطنى أو أى هيئات أو مجالس قومية عليا، باستثناء الهيئات والمجالس ذات العلاقة بشؤون الدفاع والخارجية، وتكليف شخصية مستقلة لرئاسة «حكومة الإنقاذ» طوال المرحلة الانتقالية، وعدم ترشيح نفسه لولاية سادسة عام 2011. وحددت، فى مقالة ثالثة، مهام وأولويات «حكومة الإنقاذ الوطنى» وأهمها: إلغاء القوانين المقيدة للحريات، وضمان استقلال القضاء، وتشكيل لجنة عامة مستقلة ودائمة للانتخابات، وتشكيل هيئة تأسيسية ممثلة لوضع دستور جديد للبلاد، وإعادة هيكلة وتنظيم الأزهر الشريف وهيئة الأوقاف، وإصدار قانون جديد يضمن استقلال الجامعات ويوفر لها أكبر قدر ممكن من الحريات الأكاديمية، ويضع ضوابط لإنشاء وعمل الجامعات الخاصة بما يحافظ على جودة ومستوى التعليم، وإعادة تنظيم شؤون الصحافة والإعلام بما يتلاءم مع التحولات والثورات المتعاقبة فى عالم الاتصال. وناقشت فى مقالة رابعة سيناريوهات التغيير المتوقعة من خلال مشاهد أربعة. الأول: صحوة مفاجئة للرئيس تقنعه بحتمية التغيير والقبول بما يتطلبه من تضحيات. غير أننى استبعدت حدوث ذلك لأسباب تبدو بديهية. والثانى: صحوة مفاجئة للنخبة تقنع الجميع بأن مواجهة الخطر المقبل يفرض عليها الاتفاق على مرشح مستقل لقيادة حكومة الإنقاذ، وعلى برنامجه للعمل فى المرحلة الانتقالية. ورغم أننى لم أستبعد حدوث مثل هذه الصحوة، إلا أننى اعترفت فى الوقت نفسه بحجم الصعوبات التى تعترض هذا المشهد. والثالث: استمرار التدهور فى مستوى أداء نظام يرفض رئيسه التعاون لإحداث التغيير المنشود، وتعجز قوى المعارضة فيه عن ممارسة الضغط اللازم لفرضه، مما يفتح الباب أمام سيناريو الفوضى وتدخل الجيش، والرابع: إحجام الجيش عن التدخل وعجز الأجهزة الأمنية عن السيطرة على الأوضاع المتفاقمة وربما انهيارها من داخلها، وهو ما قد يفتح الباب أمام التمكين لجماعات سرية منظمة. وانتهيت، فى ختام هذه السلسلة من المقالات، إلى أن آفاق التغيير والتحول الديمقراطى بالطرق السلمية لا تزال بعيدة لأن احتمال توحد قوى المعارضة حول برنامج إنقاذ يسمح بتفجير حملة ضغط منظمة لإحداث تحول ديمقراطى بالطرق السلمية لا يقل فى مثاليته عن احتمال اقتناع الرئيس مبارك بضرورة التخلى عن مشروع التوريث وتعيين شخصية مستقلة لقيادة التغيير المطلوب فى المرحلة الانتقالية. ويبدو من هذا الاستعراض أن الأفكار التى طرحتها منذ أكثر من عام تقترب فى بعض جوانبها مع تلك التى يطرحها الأستاذ هيكل حاليا وتبتعد عنها فى جوانب أخرى. فهناك، من ناحية، تطابق كامل فى المواقف حول الحاجة الماسة لمرحلة انتقالية مدتها ثلاث سنوات يتعين خلالها القيام بمهام تكفل ضمان تحول «النظام» القائم إلى «دولة» تقوم على «شرعية دستورية»، لكن هناك، من ناحية أخرى، اختلافا كبيرا فى كيفية إدارة هذه المرحلة. فبينما اقترحت أن تديرها «حكومة إنقاذ وطنى» برئاسة شخصية مستقلة تتولى اختيار أعضائها دون أى تدخل من جانب رئيس الدولة الذى يتعين أن يقتصر دوره فى هذه المرحلة على أمور الدفاع والأمن الوطنى، يقترح الأستاذ هيكل أن يتولاها «مجلس لإدارة الدولة» مشكل من 10-15 شخصية ممن تمكنوا من تحقيق إنجازات معترف بها عالميا، ويحظون بقبول جماهيرى لا يمكن لأحد أن يشكك فيه من أمثال: البرادعى وزويل وموسى وغنيم وغيرهم. اقتراح هيكل بتشكيل «مجلس لإدارة الدولة» يبدو مثيرا للاهتمام ويستحق مناقشة جادة، لكنه مع ذلك يبدو اقتراحا غير عملى لأسباب كثيرة، منها: أولا: ثبوت فشل تجارب القيادة الجماعية تاريخيا. ولأن الأستاذ هيكل لم يوضح ما إذا كان يقترح تزويد المجلس بصلاحيات تنفيذية أم أنه سيكون مجرد مجلس «للتفكير»، فمن المتوقع أن يصبح فى هذه الحالة أقرب إلى «الهيئات الاستشارية» غير الفاعلة منه إلى الهيئات التنفيذية المخولة باتخاذ القرار. ثانيا: غموض العلاقة فى أطروحة الأستاذ هيكل بين كل من رئيس الجمهورية ورئيس «مجلس إدارة الدولة» ورئيس الوزراء، ومدى ما يمكن أن ينجم عن هذا الغموض من تعقيدات. ولا جدال فى أن هيكل أثار دهشة الكثيرين حين قام بترشيح رشيد محمد رشيد، رئيسا للوزراء، ويوسف بطرس غالى، نائبا له، دون توضيح مقنع لأسباب ومعايير هذا الترشيح!. ثالثا: يبدو أن الأستاذ هيكل لا يستبعد من حيث المبدأ احتمال تخلى الرئيس مبارك عن «مشروع توريث» السلطة لنجله جمال والقبول بفكرة مرحلة انتقالية يديرها «مجلس لإدارة الدولة»، وهى فكرة ستؤدى إلى تقليص صلاحياته بدرجة كبيرة ولم يوضح لنا الأسباب التى تدعوه لهذا التفاؤل، ولم يحلل لنا ردود الأفعال المتوقعة من جانب الأوساط التى راهنت طويلا ولا تزال تراهن على جمال مبارك باعتباره الرئيس القادم. أدرك أن هدف الأستاذ هيكل لم يكن التقدم بمقترح تفصيلى حول كيفية إدارة شؤون الدولة فى المرحلة الانتقالية بقدر ما أراد أن يبعث برسالتين على جانب كبير من الأهمية وفى توقيت تتصاعد فيه الحملة الشعبية ضد مشروع التوريث: الرسالة الأولى: تعبر عن قلق شديد، وبأشد الكلمات وضوحا وصراحة، من النتائج الكارثية المتوقع حدوثها فى حال الإصرار على المضى قدما فى تنفيذ مشروع التوريث. الرسالة الثانية: تريد التنبيه إلى وجود بدائل عقلانية وسلمية تسمح بتجنب سيناريو الفوضى الذى يمكن أن ينجم عن الإبقاء على السياسات الراهنة دون تغيير. لست متأكدا من أن رسالة هيكل وصلت إلى المستهدفين بها، لكنى واثق من أنها وصلت إلى آخرين يشعرون بالقلق نفسه، ويريدون تجنيب البلاد سيناريو الفوضى المقبلة، التى لا يدرك الكثيرون من كوادر النخبة الحاكمة أنهم يسوقون البلاد سوقا نحوها!