فى مؤلفه القيم بعنوان «الشخصية اليهودية الإسرائيلية والروح العدوانية»، يتتبع الدكتور رشاد الشامى، أستاذ الأدب العبرى بجامعة عين شمس، العوامل التى طبعت الشخصية اليهودية بالتمايز وبالاستعلاء اللذين ينتجان عند علماء النفس من شعور مقابل بالدونية وبالاضطهاد، فالنص الدينى التوراتى يؤصل لذلك الشعور حيث تبدأ الوصايا العشر بجملة (أنا الرب إلهك الذى أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية)، وفى سفر الخروج الآية 7 : 3 (وقال الرب: لقد رأيت مذلة شعبى فى مصر وسمعت صراخهم وعلمت أوجاعهم فنزلت لأنقذهم من أيدى المصريين وأخرجهم من تلك الأرض إلى أرض جيدة وواسعة). عامل آخر شديد الأهمية نجم عن حملات الإبادة التى تعرض لها اليهود فى السبى البابلى قبل الميلاد ثم فى المذابح الرومانية قبل وبعد ميلاد السيد المسيح، إذ وفقاً لعملية الانتخاب- كما يرى علماء النفس والاجتماع- فقد أبادت تلك المذابح الرهيبة العناصر المناضلة والمقاومة فلم يتبق سوى العناصر الجبانة التى طبعت الشخصية اليهودية بطابع الخنوع والاستضعاف واللجوء إلى التزلف الناعم والمكر والخديعة لتحقيق أهدافها، وهو ما ضاعف من الشعور بالمذلة الذى يولد تلقائياً ذلك السمت الاستعلائى الانعزالى أو «الجيتوى» والذى برز فيما صاغوه من مصطلحات إبان السبى البابلى سواء للتفاخر بأنفسهم مثل «شعب الله المختار» أو «الشعب الأزلى- عم عولام» الذى يبقى بعد فناء الأمم الأخرى، أو للتقليل من شأن غيرهم مثل مصطلح «الجوييم» وهم الأغيار من غير اليهود ومعناها : الكافرون الأقذار. يمكننا أن نرصد بوضوح تلك الشخصية الانعزالية/المستضعفة/الاستعلائية/المغتربة/الودود/العدوانية من خلال هذه السيرة الذاتية البديعة «الرجل ذو البدلة الشركسكين البيضاء- وقائع خروج أسرة يهودية من مصر»، والذى تتبع فيه مؤلفته «لوسيت لنيادو» أو «لولو» سيرة حياة أسرتها اليهودية التى تنتمى للطبقة الوسطى المصرية بداية من اقتران والديها فى مصر مطلع أربعينيات القرن العشرين وحتى وفاتهما فى أمريكا منتصف التسعينيات ثم رحلتها ككاتبة أمريكية إلى القاهرة عام 2005 لترى ذلك المكان الذى ولدت فيه وهاجرت منه فى مطلع الستينيات وهى بعد طفلة صغيرة مازالت صرخة والدها «ليون» المؤلمة تطاردها عبر السنين بينما المركب يبحر من ميناء الإسكندرية (رجّعونا مصر.. رجّعونا مصر). يقف الكتاب عند حدود السرد الدقيق لتفاصيل الحياة اليومية لأسرة من آلاف الأسر اليهودية المصرية ورحلتها من مصر إلى المهجر أو ما أطلقت عليه الكاتبة «المنفى»، دون أن يتورط فى تحليل الأسباب والنتائج أو يشتبك مع الأحداث السياسية إلا بمقدار ما يتطلبه رسم الخلفية التاريخية للأحداث تاركاً هذه المهمة للباحثين مكتفياً بالتفاصيل الصغيرة التى تعطى للسيرة الذاتية مذاقاً متفرداً وتجعل من التاريخ الخاص للأفراد والجماعات مداداً حياً لتسجيل التاريخ العام للأمة التى شكل اليهود، بلا ريب، مكوناً رئيسياً مهماً من مكوناتها خلال فترة طويلة من الزمن. يبدأ الكتاب بذلك اللقاء الرومانسى الذى تم عام 1943 بين الرجل الوسيم «ليون» ذى البدلة الشركسكين البيضاء والفتاة الجميلة «إيديث» فى مقهى الباريزيانا القاهرى حيث خطف كل منهما لب الآخر فقررا الزواج وتكوين أسرة أنتجت بنتين وولدين أصغرهم المؤلفة، وينتهى السرد فى مستشفى أمريكى مخصص لليهود الفقراء تصادف أن التقى فيه الزوجان فى نهايات القرن العشرين بعد أن تفرق الأبناء (نظر كل منهما للآخر ثم نظرا بعيداً، لم يتبادلا كلمة واحدة ولم يكن لكل منهما القدرة على الاعتراف بوجود الآخر، فقد كان ذلك يعنى الاعتراف بحالتهما المرعبة وعدم قدرتهما على مساعدة أحدهما للآخر). وبين التاريخين تفاصيل إنسانية لحياة أسرة تنقلت بين البلاد فى محاولة لاهثة للعثور على هويتها الضائعة، بينما الهوية الحقيقية كانت دائماً فى الوطن الأصلى- مصر- الذى ظلوا يحلمون بالعودة إليه (فى يوم من الأيام) والذين اكتشفوا- بعد فوات الأوان- أن (الجنة بالنسبة لهم كانت هنا فى القاهرة يجوبون شوارعها من الصباح إلى المساء، يتلقون تحيات الأصدقاء والمعارف بل الغرباء فى مدينة تحتضنك، تستبد بك وتلتهمك بكل الحب). ليس بوسعك وأنت تتابع مسيرة حياة وخروج هذه الأسرة اليهودية من مصر إلا أن تشعر بكل التعاطف الإنسانى مع أفرادها، بل إنك تشعر أن ثمة وشائج قربى تربط بينك وبينهم كأنك كنت تعرفهم، بدءاً من الجدة «ظريفة» والدة «ليون» التى تنتمى لأسرة يهودية حلبية متدينة عاشت فى سلام ووئام مع جيرانها المسلمين وتطبعت بطباعهم العربية البدوية ونقلت وصفاتهم الشهية لمطبخها القاهرى، وهى ربة بيت من الطراز الأول على عكس «ألكسندرا» والدة «إيديث» السكندرية التى لا تتقن شيئاً من أعمال البيت والتى تجسد على الدوام اليهودى التائه الباحث عن هوية مفقودة حتى تستجيب للنداء الصهيونى المخادع فتهاجر فى الخمسينيات إلى أرض الميعاد (إسرائيل) وهناك تدرك بعد فوات الأوان أنها هاجرت إلى (مجتمع قاسى القلب) يسحق إنسانيتها بلا رحمة فتتذكر كيف (اعتاد المصريون- الذين عاملتهم باستعلاء- أن يعاملوها بتلك الصفة الرائعة التى يسمونها الرحمة). وكذلك الأبناء الأربعة: «ظريفة/سوزيت» الابنة الكبرى الجامحة التى تشبه جدتها لأمها وتتطلع إلى الحلم الإسرائيلى وتظل طوال الوقت تتنقل من بلد لبلد متخلية عن هويتها العربية متطلعة لهوية مفقودة لا تعثر عليها أبداً، بينما يمثل كل من «سيزار» و«إيزاك» على اختلافهما صبيين مصريين معاندين لوالدهما فى الالتزام بأصول التدين اليهودى ومتطلعين لحياة غربية ينعمان فيها بالتحضر وبالرغد المادى، وقد كان الخوف من تجنيدهما فى الجيش الإسرائيلى هو الدافع لأسرة «لنيادو» إلى اختيار أمريكا بدلاً من إسرائيل مهجراً لهم. أما الابنة الصغرى «لوسيت/لولو» فهى مثال للبنت المصرية المتدينة شديدة التعلق بأسرتها، وبالأخص والدها وقد بقيت إلى جوار والديها- على العكس من إخوتها- حتى نهاية عمريهما، وهناك أيضاً الأعمام والعمات بالسمت وبالعادات الفرانكوفونيك المنتشرة فى قاهرة ذلك الزمان، إضافة إلى نموذج الخال النذل الذى دأب على التخلى عن عائلته حتى عندما رقدت «ألكسندرا» فى المستشفى الإسرائيلى للمرة الأخيرة (لم يكلف خاطره برؤيتها رغم أنه لم يكن قد رآها لسنين). إنها سيرة أسرة مصرية خالصة امتزجت دماؤها بالتراب الوطنى وعاشت مع مواطنيها المسلمين والمسيحيين فى رخاء ومحبة وسلام، فما الذى دفعها لاستحضار شعور زائف بالاضطهاد ومن ثم الانجراف وراء دعاية صهيونية استهدفت ترحيل اليهود من أوطانهم الأصلية لتتمكن من زرع الكيان المحتل فى أرض عربية مضحية باستقرار عشرات الآلاف من الأسر التى عانت فى شتاتها الاختيارى، وكان عليها أن تدفع وحدها ثمن الأطماع الإمبريالية والتآمر الصهيونى الذى فرض عليها أوطاناً بديلة حاولت فيها أن تعيد إنتاج نماذج مصغرة لأوطانها الأصلية بلا جدوى، فبقيت صيحاتها الأليمة عبر الزمن تردد صدى صرخة «ليون لنيادو»: رجّعونا مصر.. رجّعونا مصر! ونواصل رحلتنا الأسبوع المقبل بإذن الله.