إرادة التغيير .. وإدارة التغيير ما زال الكناس متسمّرا في مكانه وسط الشارع بين جنبات سيارات تتسارع وتتباطأ وتتوقف ممسكا بمكنسته الواهية مدعيا أنه يقوم بتنظيف ما لا يزيد عن نصف متر هي المساحة التي يحرك خلالها يديه ومكنسته أما ناظريه فيتجهان إلى قائدي السيارات مستعطفا راجيا طالبا حاقدا متوسلا في صمت يماثل صمت المكنسة التي ما زالت تراوح مكانها جيئة وذهابا . وما زال الشارع مكتظا عن آخره في أوج ذروة أوقات العمل وعلى مدار اليوم وطوال أيام الأسبوع يموج بجحافل من البشر في عرض الشارع وعلى جانبيه في مظهر عشوائي يظهر أن كل فرد يتجه صوب ما لا يتجه إليه الآخرون وكلهم بين مصغ لهاتفه الجوال أو متحدثا فيه بصوت صارخ أو متحدثا لنفسه أو مصغيا لما يتحدث به الآخرون أو منتظرا أو متتبعا لميكروباص يتباطأ ويسرع في انتظار التحميل والتفريغ . وما زال الشارع بلا رصيف أو هو بعدة أرصفة بين عالية ومنخفضة ومتصلة ومنقطعة ومرصوفة ومتهالكة ومتربة ومعوجة حاول شباب متحمسون إبان الثورة أن يجعلوا تلك الأرصفة رمزا لمساهماتهم ومشاركاتهم فزينوها بالأبيض والأسود دون أن تطال هذه الزينة جوهرها فأصبحت وكأنك تقوم بتجميل ما هو قبيح دون أن تعبأ بإزالة أسباب القبح فبدا التجميل غير جميل واستمر القبح قبحا ناهيك عن أن الأبيض والأسود قد استحال رماديا بفعل تهالك الاستهلاك . وما زالت القمامة بكافة أنواعها تسكن أرض كل الشوارع دون تمييز بين حي من الأحياء فلا تعدم أن تجد قمامة زمالك القاهرة هي ذاتها قمامة حارة أم الغلام في حي الحسين ولا أقصد القمامة المتراكمة فهي المعضلة التي لا تجد حلا ولكني أقصد المنتشر من تلك القمامة بفعل الاستخدام الآني للمارة والعابرين بسياراتهم والملقين بمخلفات تصرفاتهم من نوافذ السيارات الخاصة وسيارات الأجرة والميكروباصات ، لقد أحصيت الملقيات بالشوارع أثناء عبوري الشارع العام فوجدتها من كافة الأصناف والأشكال والأنواع والمواد والمنتجات من أعقاب وعلب سجائر فارغة، وورق ممزق ، وكراتين صغيرة منبعجة كانت تحوي مشروبات، وأكياس بلاستيكية غير معلومة المصدر، وبقايا مأكولات اشتريت بنظام التيك أواي ، والأغرب أن كل ذلك ما زال لا يمثل غضاضة لدى أي مار أو عابر أو سائل أو منتظر أو متفكر أو متدبّر أو مغيّب أو منتم أو حاقد ، استمرأ الكل هذا المنظر الذي أصبح يعبر عن فولكلور مصري دائم . وما زال المتسولون يجوبون النواصي وأماكن إشارات المرور وإن تقلص عددهم قليلا في بعض الأحياء لانصراف بعضهم للبلطجة بوصفها أوفر إيرادا خاصة إذا ما كان هذا الإيراد متصلا غير منقطع يموله الممولون وينفق عليه في الضراء المنفقون أما باقي المتسولين فقد ازدادوا جرأة وإلحاحا وإلحافا فالذي كان يرجو أصبح يطلب، ثم بات وكأنه يأمر ولسان حاله يدعي أن ما يطلبه هو حقه الخالص بغض النظر عن كونه ممن تعتبرهم الدولة في نطاق قوة العمل التي تنسب إليها نسبة البطالة . وما زال الوزراء قابعون في أماكنهم لا يغادرون وزاراتهم إلا لسفر، تصريحاتهم تبدو وكأن وزاراتهم سرمدية، فإذا انتقدهم أحد أجابوا بأنهم لتسيير الأعمال، فإن كانوا لتسيير الأعمال فقط فلماذا يلزمنون أنفسهم ومن سيخلفونهم بالتزامات مؤجلة، وإذا كانوا للتغيير فلم لم نسمع عن أي منهم أمرا متفقا مع المرحلة بل استمرار لذات الوتيرة وبأسلوب "علينا أن نعمل وعلينا أن ننتج" وكأن مسئولياتهم لا تخرج عن شعارات فقط دون إجراءات محددة بمواقيت زمنية لتنفيذها، كما لم نسمع عن خطة طويلة المدى لوزارة ما يسير عليها الوزير ومن يخلفه، ولم نسمع عن مشروع قومي يلتف حوله كل أبناء الوطن، وما زالت صور الوزراء في مجلسهم يبتسمون ويحادث بعضهم بعضا ثم يبدأ الاجتماع فتتجمد صورهم وهم ينظرون إلى رئيسهم وكأن على رؤوسهم الطير، ثم ينفض الاجتماع فتأتي التصريحات بخلاف الابتسامات، وهاهم الوزراء يسافرون فيعرضون ويطلبون وكأن تلبية تلك الطلبات فرض عيْن على من يزورونهم ، ثم تترى التصريحات المتضاربة بين من يقول إننا طلبنا قروضا ومن ينفي ذلك وكأنهم قد سافروا دون خطة موضوعة أو دون هدف مرسوم، ثم نسمع من المؤسسات المالية الدولية أننا طلبنا قروضا بما يعادل ثلث الدين الخارجي . وما زالت الشعارات تملأ الملصقات في الشوارع والميادين في عبارات جوفاء مثل "لا للفتنة الطائفية" وكأن من يرد الفتنة سوف ترده تلك العبارة وكأن من يقف ضد أي فتنة سوف تثبته تلك العبارة – كما أتت بعض الملصقات الإعلانية التي لا أعلم من يقوم بتمويلها بعبارات بلهاء مثل "تعال نبني بلدنا"، وأتساءل كيف أبني بلدنا وما هو برنامج هذا البناء وما هي المؤسسة التي تقوم بالإشراف عليه وما علاقته بالكم الهائل من العاطلين الذين ينظرون إلى هذه العبارة بحسرة وكأن بينها وبينهم بعد المشرقيْن، فأين الطريق الذي تنادي به تلك العبارة الجوفاء "تعال نبني بلدنا"؟ وما زالت السيارات مكدسة في الشوارع مستهلكة للوقود هدرا ومخلفة وراءها بعوادم مهلكة لصحة أبناء الوطن وما زالت تصرفات قائديها تنم عن عصبية وأنانية وسوء تعامل مع الآخرين وما زالوا وهم يقودون سياراتهم لا يتبعوا التعليمات المرورية ولا الآداب والسلوكيات الأخلاقية فهم يقفون في الممنوع ويصفون سياراتهم في صف ثان وثالث ويدخلون ويخرجون في كافة الشوارع غير عابئين بالعلامات المرورية على وجه الإطلاق واستبيحت الشوارع جميعها وأصبحت وكأنها مخازن متحركة ببطء للسيارات بكافة أنواعها . وما زالت الأغاني تتوالى والكلمات تنظم والموسيقى تعزف وكأن الثورة قد أسفرت فقط عن أزجال وأشعار وألحان وأغان، وكأن فيها ما يؤجج المشاعر، وكأن بترديدها ما يسهم في التغيير المنشود، وكأن في انتفاء وجودها ما ينتقص منها . وما زالت إنتاجية الموظف في أدنى درجاتها، وما زال المشهد الوظيفي في أية مصلحة حكومية يدعو إلى الرثاء، حيث الملفات مكدسة، والأوراق مهملة، والأتربة على الأرفف مترعة، والمترددون من جمهور المتعاملين حيارى بين أروقة المصلحة ومكاتبها، لا يلتزم الموظفون إلا بالوضوء قبل الصلاة بفترة ثم الصلاة جماعة انتقاصا من وقت المصلحة المهدر أصلا ومن مصالح العباد المنتظرين في صبر وأناة وهم ينظرون إلى المصلين وهم في الشكل خاشعون وفي المضمون لمصالح الناس غير عابئين، والغريب أن المطلوب ليس الإبداع – لا قدّر الله – ولكن مجرد الإنتاج الذي يفترض أنهم يتقاضون عنه أجرا و.. حافزا!! وما زال الناس – كل الناس – في تصرفاتهم فيما بينهم وكأنهم رمزا صارخا لانفصام الشخصية فهم يركزون كثيرا على العبادات غير عابئين على وجه الإطلاق بالمعاملات في صورة هي أسوأ ما يمكن إظهاره عن الدين الذي يدينون به وكأن تصرفاتهم تحجب سماحته ........... وما زال ، وما زال ، وما زال ، وما زال .............. تغيّر الناس ولكن إلى الأسوأ، وتبدلت الأحوال إلى أدنى، ولا أستثني نفسي فقد كنت للثورة مؤيدا ولأحداثها متابعا ولرموزها مشجعا ولأيامها متشدقا وللجانها الشعبية فاعلا وعن فلول أعدائها غاضبا ولنتائجها منتظرا ولاستفتاء مواد الدستور مشاركا، فهل طالني أي تغيير؟ نعم لقد طالني التغيير، وأي تغيير؟! فمنذ الثامن والعشرين من يناير لم أتمكن من صلاة الفجر بالمسجد كعادتي لالتزامي الشديد باتباع قرار حظر التجوال الذي استمر حتى منتصف يونيو 2011، ومنذ الأول من أبريل وأنا قابع في منزلي دون عمل بعد أن استغنت عني الوزارة التي كنت أعمل بها ضمن فريق عمل أحد مستشاريها رغم ما بذلته من جهد وما أعطيته لعملي من ناتج خبرة تزيد عن أربعين عاما، وإبان الثورة وأثناء قطع الاتصالات دخل "هاكر" على بريدي الإلكتروني واتصل بأصدقاء لي من رومانيا واستطاع أن يسحب مالا منهم مدعيا أنه وكيلا لي وأنه نظرا لظروف قطع الاتصالات فإنني لا أستطيع الاتصال بهم واضطررت لدفع ما تكبدوه، ومنذ الحادي عشر من فبراير وأنا أنتظر التغيير الإيجابي المنشود ولم يشأ التغيير أن يأتي، أو أن يظهر، أو حتى أن تبدو ملامحه . في علم الإدارة هناك ما يسمى "إدارة التغيير" ، وهناك أيضا ما يسمى "إدارة الأزمات" ، وهناك "خطة الطوارىء" ، كما أن هناك أيضا ما يسمى "إدارة المخاطر"، وفي كل ما ذكر توجد الدراسات والتحاليل وأساليب وإجراءات العمل وقوائم الفحص ببنودها المختلفة التي يتم التأشير أمام كل بند منها وقت تنفيذه، يتعين التعرف على المشكلة وتوصيفها وتوثيقها ووضع الحلول اللازمة لها والجدول الزمني اللازم للقضاء عليها ثم وضع الأساليب التي تضمن عدم تكرارها . إذا أردنا التغيير علينا ألا ننتظر ولا نقول إنها تداعيات الثورة وتوابعها، فهذه ليست تداعيات ولا توابع وإنما حالة من الجمود تتدنى لتكون أقرب إلى حالة من الانحدار المفضي إلى الانهيار ، وما علينا إلا أن نأخذ بما تمليه علوم "إدارة التغيير" و"إدارة الأزمات" و"إدارة المخاطر"، وإلا فسنجد أنفسنا "محلك سر" أو "للخلف در" !!!!! د. سمير مهدي خبير اقتصادي - دكتوراه في إدارة المخاطر