لسبب فنى يتصل بتفاصيل الرسائل على البريد الإلكترونى، سقط نصف مقال الأسبوع الفائت عن الدواء «اللقيط المخطوف فى ملاجئ الصحة»، وكان معظم المقال نص رسالة من الدكتور رجائى قوسة، الصيدلى الذى يعيش هموم مهنته ضمن معايشته هموم الوطن، إضافة إلى مواقع نقابية صيدلانية، وقد سبق أن كتبت عن سر اهتمامى برسالته، ليس لأنه أشاد بكاتب هذه السطور، ولكن لأنه لمس أبعادًا لا يلمسها سوى مَن يده فى نار التجربة.. وقد استأذنت إدارة التحرير فى «المصرى اليوم»، خاصة زميلى المشرف على صفحات الرأى، أن أُفسح المجال للنصف المبتور من المقال، ومن رسالة الدكتور «رجائى» ونصه ما يلى: «طالبنا حتى جف اللسان وأُنهك الحلق بضرورة كتابة الدواء فى الروشتة بالاسم العلمى للدواء وليس بالاسم التجارى، حيث يوجد لنفس الدواء أكثر من خمسة عشر مثيلًا بأسعار مختلفة متناقضة، من الدواء المستورد، ثم الدواء الذى تصنعه شركة عالمية فى مصر، ثم المثيل المنتج من شركة محلية، ولكن الأطباء حريصون على كتابة الأدوية المستوردة أو المُصنَّعة من قِبَل الشركات العالمية، لكى يستفيدوا من الهدايا والمؤتمرات والرحلات، هل تعلم سيادتكم أن بعض الهدايا تصل إلى سيارات أحدث موديل ورحلات إلى الخارج، مشتملة تذاكر سفر وإقامة فى فنادق 7 نجوم لكبار الأطباء؟! حتى إن بعض الشركات المحلية لكى تواجه هذا، أصبحت هى الأخرى تقدم مبالغ مالية لصغار الأطباء، وهكذا أصبح المريض مُحاصَرًا من الأساتذة الكبار حتى أطباء الاستقبال فى المستشفيات الحكومية والوحدات، كل ذلك بالطبع تضيفه الشركات على سعر الدواء ويدفعه المريض من قوته تكلفة إضافية مبالغًا فيها تؤثر، بل تدمر اقتصاد الدولة، ووزير الصحة يعلم ذلك، بل كل وزراء الصحة يعلمون هذه الحقيقة، ويعرفون أن سعر الدواء سينخفض إلى أقل من الثلث فقط بقرار وزارى واحد يُلزم الأطباء بكتابة الدواء بالاسم العلمى، ويعطى المريض حرية اختيار الدواء حسب قدرته المادية وإمكانياته، ولكن هيهات وهيهات، فأباطرة الفساد أقوى من أى مصلحة. ولكن ونحن فى هذه اللحظة الفارقة، التى من الممكن أن يصل فيها سعر الدواء إلى أضعاف أضعاف ثمنه، ومن الممكن جدًا أن يصبح سعر الدواء فوق إمكانيات 70% من الشعب المصرى، لنصل إلى ما يُعرف ب«المجاعة الدوائية»، فالمشكلة ليست فى ارتفاع تكلفة إنتاجه فقط، ولكن المشكلة فى تضاعف أسعار الرحلات الخارجية والهدايا والجنيهات الذهبية والأقلام المستوردة ذات الماركات العالمية، فلو كانت المشكلة فى سعر تكلفة الإنتاج لهان الأمر، لذا السؤال الآن: هل سنجد الدولة تقف فى جانب المريض المصرى، أم كالعادة ستخذله لتقف فى صف الطبيب ومصالحه ومزاجه ومكاسبه؟!، وأنا أؤكد لسيادتك أن الوزير سيختار بالطبع الانحياز لأبناء مهنته، وليذهب المريض المصرى إلى الجحيم. ولكن لأن مصر مازالت تنبض بالرجال فستظل صرختنا دائمًا فى وجه الفساد، رغم أننا نعلم أننا نصرخ أمام وزارة يسكنها مَن هم أعتى وأشد إجرامًا من كل مافيا العالم مجتمعة، ولكن الأمل فى الأقلام الشريفة التى بين أيديكم لكى تدق أجراس الإنذار وتفضح هذه الشبكة العنكبوتية الخفاشية من المصالح القذرة. ولكم منى جزيل الشكر والتقدير على دوركم التنويرى والتثقيفى لخدمة الوطن».. انتهت الرسالة. هكذا نكتشف وجهًا من وجوه تشخيص المسألة الدوائية فى مصر، ونلمس فى الوقت نفسه جزءًا مهمًا من سبل العلاج، وإلى مَن سينحاز وزير الصحة، وهل يمكن مواجهة شبكة عنكبوتية خفاشية من المصالح القذرة أم لا؟!. ثم إن مسألة كتابة الدواء بالاسم العلمى تبدو مسألة مهمة، لأنها ستقطع الطريق الموصولة بين خيوط تلك الشبكة، وأعتقد أنها مسألة مبدئية، وإذا كانت مبدئية فهل مازال الجسد الطبى المعالج فيه مكان للمبادئ! ولأن الشىء بالشىء يُذكر، فإننى سأحكى ما عشته عام 1982 فى حكاية المبادئ تلك، إذ صاحبت المغفور لها أم أولادى أثناء حملها فى طفلتنا الصغرى، التى أصبحت الآن طالبة دكتوراه متفوقة ومتميزة فى الهندسة المعمارية، وكانت الأم تعانى ضيقًا شديدًا فى صمامين من صمامات القلب، وكانت الصحبة إلى لندن، حيث الموعد المحجوز مع طبيب قلب مصرى مشهور جدًا، ووصلنا العيادة، ودفعنا الرسوم المطلوبة، ورأى الطبيب العالمى أن الحمل لابد أن يُجهض حرصًا على صحة وعمر الأم، ولأجل أن يطمئن، طلب إلينا الذهاب إلى أستاذة طب نساء مشهورة فى شارع هارلى الأشهر بلندن، واتفقت مسز «لاف»- هذا اسمها- مع طبيب القلب فى حتمية الإجهاض، ولأجل أن يزداد اطمئنانها، طلبت أن نذهب إلى أستاذة متخصصة فى حالات القلب المصاحبة لحالة حمل، وكان اسمها الذى لن أنساه «سيليا أوكلى»، وذهبنا وكما تعودنا مع الطبيبين السابقين، دفعنا المعلوم الباهظ، وأثناء حوار الطبيبة مع المريضة سألتها عن معلومات لم تُكتب فى البيانات التى سجلناها قبل دخولنا، فسألتها عما إذا كانت مسلمة أم لا، ولما جاءت الإجابة بأنها مسلمة استكملت: أظن أن الإسلام مثل الكاثوليكية يُحرّم الإجهاض!!، واستمرت فى الأسئلة، فعرفت أن المريضة طبيبة، وعندها قالت بحسم: تقولين إنك طبيبة، فهل لم تتعلموا فى بلدكم أن الطبيب لا يدفع لزميله مالًا؟!، وضغطت على الزر، فجاء مساعدها الإدارى، الذى أمرته بأن يرد ما أخذه، وبعدها طلبت أن تشاهد حالة القلب على جهاز أشعة، وإذا بها تقول: «الحالة صعبة، وتستطيعين استكمال الحمل تحت إشراف طبى»، وبعدها كتبت توصية لاثنين من الأطباء فى دبى، حيث كنا نعيش فى الإمارات، ليشرفا على الحمل إلى وقت الولادة.. ولكن المفاجأة أن الأم شعرت بآلام الوضع، وكان أن وضعت مولودتها فى المنزل.. ولَّدت نفسها، وكانت مساعِدتها ابنتها الكبرى، التى لم تكن تتجاوز خمس سنوات، وحملت الأم والمولودة إلى المستشفى، وعندها صار الطبيب الإنجليزى «مستر ساتون» يضرب كفًا بكف، ويقسم بأنه من المستحيل لحالة قلب حادة مزمنة أن تضع حملها بدون مساعدة!. القصة طويلة، ولكنى أتوقف عند حكاية المبادئ، «هل لم تتعلمى كطبيبة أن الطبيب لا يدفع مالًا لزميله؟!».. يعنى بمفهوم المخالفة «أن الطبيب لا يأخذ مالًا من زميله»، وهذا ما فعلته «سيليا أوكلى»! ولأطبائنا فى «المحروسة»، خاصة الكبار منهم، أتساءل: هل من الوارد أن تتخلوا ولو قليلًا عن التواطؤ مع شركات الدواء.. لوجه الله، ولأجل الأنبياء، وعشان خاطر الوطن؟!. [email protected]