ماريان خورى وسينما «المسكوت عنه»

هل كان على ماريان خورى أن تمشى على قلبها لتصنع هذا الفيلم؟!، ما الذى كانت تريده فى رحلة البحث من خلال نبش الصور والتسجيلات الصوتية والمرئية والحوارات البديعة مع الابنة وشقيقيها؟، هل البحث عن الهوية والذات؟، هل للإجابة عن أسئلة معقدة فى علاقتها بأمها، وعلاقتها بابنتها الشابة، والتى تشبه جدتها فى قوتها وعنادها؟
الوحدة والاكتئاب والغربة والحنين والحب والموت والولادة، والحيرة تتجسد فى الدائرة الضيقة للحظة الحاضرة مع الابنة، الموتى ينتصرون على الحياة انتصارًا كاسحًا، لأنهم مازالوا يحومون حول الأحياء، ومع ذلك هناك حضور دائم للحياة الخفاقة الراعشة، الحب موجود بكل عنفه وعنفوانه، فهو حب مجهض ومفقود فى نفس الوقت، التنافس والجاذبية وزواج الصفقة والهروب للداخل والموت والمرض.
تركيبة مدهشة من المكونات، أمومة منقوصة، وهوية مختلطة، شامية مصرية مسيحية مسلمة، القوة والهشاشة تركيبة معقدة وغرائبية للشخصيات الحاضرة فى الفيلم، علاقة بين الأم والابنة كأنها لعنة أبدية، تتوارثها الأجيال، كل هذه الأوضاع العاطفية المرتبكة تجد تعبيرها الأسمى فى تساؤلات بين الأم والابنة، وهى ليست بالضرورة إجابات شافية، ربما كانت تبحث عن أحد يبصّرها عن سؤال، وظلّت إجابته معلقة، يمضى الزمن ولا تمضى الروح.
فيلم «احكيلى»، عمل ينطوى على عمق روحى، فى جوهره الإرادة والبحث والقلق، ضفيرة واحدة، تفتح ماريان خورى الأبواب المغلقة على فضاءات مفتوحة وتواريخ شبه سريّة، وتنفض عنها تراب السنين، رغم أنه فيلم تسجيلى إلا أننا نشعر كأنه فيلم روائى قصير، تتألف مشاهده من دراما ناضجة، دون ترهل، كثافة عاطفية مغلفة بالسخرية أحيانا، تتشابك الطفولة والصبا والشمس الغاربة والحب المشتهى الضائع، تتجمع المشاهد وتنفصل وتنثر ألف خيط من خيوط الماضى الحاضر، وتختلج الظلال والشجون، يتسرب بنعومة ما تريد أن تكاشفنا به، لتصل الشجاعة والكشف الحر والجرأة مداها فى هذا الفيلم.
إنه عمل ناضج بامتياز، استسلمت معها للفخ الذى قادتنى إليه، مشاهد رقراقة وعذبة، ثم تنقلب إلى صرخة مروعة ومدويّة، تفيض الذكريات لتغرق الحاضر بأضواء انطفأت فى الماضى، حاولت فيه أن تفجّر المسكوت عنه فى حياتها، ومواجهة أشباح الماضى التى تحوم حولها لتوقظ فينا جميعا أشباحنا التى مازالت محبوسة داخلنا.
ترى هل نجحت أن تخرج هذه الأشباح تماما، أم مازال هناك بعض منها يؤرقها ويطلب منها أن تخرج هذا الأرق المخزون فى عمل إبداعى هادئ جميل؟
مبروك لحصول الفيلم على جائزة الجمهور بمهرجان القاهرة السينمائى.