تركي آل الشيخ يُعلن مُفاجأَة خاصة ل نانسي عجرم وعمرو دياب.. تعرف عليها    مسؤول إسرائيلي يعلق على مصير عشرات الرهائن في غزة    آلاف الأشخاص يحتجون في القدس مطالبين حكومة نتنياهو بالاستقالة    «الحمل الوديع الذي يأكله الذئب».. مدحت العدل يهاجم مجلس الزمالك بعد الخسارة أمام المصري    البيت الأبيض: واشنطن ستراقب عن كثب زيارة بوتين لكوريا الشمالية    شهداء ومصابون فى قصف للاحتلال على مخيم النصيرات وسط قطاع غزة    واشنطن: تشكيل حكومة الحرب الإسرائيلية قرار لا يخصنا    ولي العهد السعودي يؤكد ضرورة الوقف الفوري للاعتداء بغزة    جوتيريش يدعو دول العالم إلى سرعة تنفيذ اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر    منتخب فرنسا يبدأ مشواره فى يورو 2024 بالفوز على النمسا بهدف ذاتى    طاقم حكام مباراة زد أف سي وفاركو في الدوري    عاجل.. خطأ قانوني كارثي في مباراة الزمالك والمصري.. خبير تحكيمي يوضح    ملف مصراوي.. أزمة ركلة جزاء زيزو.. قرار فيفا لصالح الزمالك.. وحكام الأهلي والاتحاد    مصرع شخص إثر وقوع حادث تصادم بالدقهلية    شديد الحرارة نهارًا.. الأرصاد تحذر من حالة الطقس اليوم الثلاثاء 18 يونيو 2024    ضحايا الحر.. غرق شخصين في مياه النيل بمنشأة القناطر    عبدالحليم قنديل: طرحت فكرة البرلمان البديل وكتبت بيان الدعوة ل25 يناير    إسعاد يونس: عادل إمام أسطورة خاطب المواطن الكادح.. وأفلامه مميزة    مفتي الجمهورية: نثمن جهود السعودية لتيسير مناسك الحج    عارفة عبد الرسول تكشف سرقة سيدة لحوما ب2600.. وتعليق صادم من سلوى محمد علي    فجرها خطيب وإمام المسجد الحرام، وفاة الداعية عمر عبد الكافي إشاعة أم حقيقة    إيهاب فهمي: بحب أفطر رقاق وفتة بعد صلاة العيد وذبح الأضحية    افتتاح وحدة علاج جلطات ونزيف المخ بمستشفيات جامعة عين شمس.. 25 يونيو    «قضايا الدولة» تهنئ الرئيس السيسي بمناسبة عودته بعد أداء فريضة الحج    تعرف على حدود التحويلات عبر تطبيق انستاباي خلال إجازة العيد    محافظ المنيا: حملات مستمرة على مجازر خلال أيام عيد الأضحى    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على صعود    مسئول في الموساد يعكس "صورة قاتمة" حول صفقة التبادل مع حماس    قتل شخصين أول أيام العيد، مقتل عنصر إجرامي في تبادل لإطلاق النار مع الأمن بأسيوط    مفاجأة عن الحالة الصحية للطيار المصري قبل وفاته، والشركة تبرر تصرف مساعده    وسط السياح، أهالي الأقصر يحتفلون بثاني أيام عيد الأضحى على الكورنيش (فيديو)    هيئة الدواء المصرية تسحب عقارا شهيرا من الصيدليات.. ما هو؟    8 أعراض تظهر على الحجاج بعد أداء المناسك لا تقلق منها    محمود فوزي السيد: عادل إمام يقدر قيمة الموسيقى التصويرية في أفلامه (فيديو)    «الأزهر» يوضح آخر موعد لذبح الأضحية.. الفرصة الأخيرة    تعرف على سعر الفراخ والبانيه والبيض بالأسواق اليوم الثلاثاء 18 يونيو 2024    الزمالك يهدد بمنتهى القوة.. ماهو أول رد فعل بعد بيان حسين لبيب؟    مرشحو انتخابات الرئاسة الإيرانية فى أول مناظرة يدعون لحذف الدولار.. ويؤكدون: العقوبات أثرت على اقتصادنا.. النفط يُهدر بنسبة 17% والتضخم تجاوز 40%.. ومرشح إصلاحي يعترف: عُملتنا تتدهور والنخب تهرب والوضع يسوء    بعد الفوز على الزمالك| لاعبو المصري راحة    «حضر اغتيال السادات».. إسماعيل فرغلي يكشف تفاصيل جديدة عن حياته الخاصة    تهنئة إيبارشية ملوي بعيد الأضحى المبارك    االأنبا عمانوئيل يقدم التهنئة بعيد الأضحى المبارك لشيخ الأزهر الشريف أحمد الطيب    البطريرك يزور كاتدرائية السيّدة العذراء في مدينة ستراسبورغ – فرنسا    تراجع سعر سبيكة الذهب اليوم واستقرار عيار 21 الآن ثالث أيام العيد الثلاثاء 18 يونيو 2024    حظك اليوم برج الحوت الثلاثاء 18-6-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    بعد الارتفاع الأخير.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الثلاثاء 18 يونيو في ثالث أيام العيد    وزراء البيئة بالاتحاد الأوروبي يوافقون على قانون استعادة الطبيعة    السيطرة على حريق بمحل بطنطا دون خسائر في الأرواح.. صور    معركة حسمها إيفان.. حكم الفيديو أنقذنا.. تعليقات الصحف السلوفاكية بعد الفوز على بلجيكا    وكيل «صحة الشرقية» يقرر نقل 8 من العاملين بمستشفى ههيا لتغيبهم عن العمل    مشروع الضبعة.. تفاصيل لقاء وزير التعليم العالي بنائب مدير مؤسسة "الروس آتوم" في التكنولوجيا النووية    الإفتاء توضح حكم طواف الوداع على مختلف المذاهب    شروط القبول في برنامج البكالوريوس نظام الساعات المعتمدة بإدارة الأعمال جامعة الإسكندرية    تعرف أفضل وقت لذبح الأضحية    دعاء يوم القر.. «اللهم اغفر لي ذنبي كله»    وزيرة التضامن تتابع موقف تسليم وحدات سكنية    ثاني أيام عيد الأضحى 2024.. طريقة عمل كباب الحلة بالصوص    الفرق بين التحلل الأصغر والأكبر.. الأنواع والشروط    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سؤال الجوهر والمظهر
نشر في المصري اليوم يوم 05 - 02 - 2020

منذ خمسة وعشرين عامًا قضيت يومين فى جزيرة «صير بنى ياس» فى «أبو ظبى» التى حولها المغفور له الشيخ زايد من مكان قاحل إلى محمية للطيور والحيوانات غير المفترسة، إضافة إلى بساتين فاكهة ومزارع خضروات تشكل مع الأسماك التى يتم اصطيادها من مياه الخليج المحيطة مصدرا لاكتفاء الجزيرة ذاتيا من الطعام، وهى حكاية عربية أذهلت المعنيين بالبيئة والحياة الفطرية على مستوى العالم.
لقد لمح الشيخ زايد ببصيرة الفطرة السوية ما يمكن أن تكونه هذه الجزيرة المقفرة، وكان أن جمع عددا من العمال والمهندسين الزراعيين، وطبَّق أسلوبه البسيط والفريد وفائق النجاح فى زراعة الصحراء، بتغطية الرمال والأرض الجدباء بطبقة رقيقة محسوبة من التربة، تُخصَّب وتُزرَع وتُروى بترشيد من مياه الخليج المُحلَّاة، كما أنشأ بحيرة عذبة لتسقى منها الحيوانات. وسرعان ما تحولت الجزيرة إلى محمية تكاملت ذاتيًّا، ومن مدهشاتها أن بعض الطيور المهاجرة استوطنتها، كما تكاثر فيها المها العربى بعد أن أوشك على الانقراض، وكذلك غزال الرمل البديع النادر، ووجدت فيها حيوانات أخرى موائل طبيعية لها.
على حافة موئل لقبيلة من الطواويس الهندية زرقاء الصدور توقفت طويلًا أراقبها وأتأمل. كانت ذكورها المتباهية لا تكف عن الانتفاش فاردةً مراوح ذيولها الساحرة الخلابة أمام الإناث، اللائى كنَّ غير مكترثات، منشغلات بنقر الأرض لالتقاط ما يجدن من طعام، ولأول مرة سمعت الصوت القبيح للطاووس، كما تعجبت لغلظة وثقل أرجله المتنقلة بتساحُب. عندئذ تذكرت وصفًا للطاووس يقول إن «له ريش ملاك وصوت شيطان ومشية لص». ولأننى مجبول على «قراءة» هذه المخلوقات الفطرية كرسائل متجسدة أمامنا نحن البشر، أدركت هول مفارقة المظهر للجوهر. وفى ذات الوقت، مع ترامى بدائع هذه المحمية من حولى، أكبرتُ اختيار حكيم عربى حاكم للجوهر قبل المظهر، فكانت الأولوية عنده للشجر قبل الحجر، ولصالح إنسانية البشر، فصارت الإمارات، التى تتربص بها صحراء الربع الخالى القاسية، بستانًا يُصدِّر الزهور والخضروات لأوروبا فى الشتاء.
والآن، بعد سنين من قراءتى الحية تلك للطاووس، الذى هو كائن مُيسَّر لما خلق له، وإن انطوى على رسالة يمكننا تأملها، أتوقف أمام بحث مُبتكر لعالمة شابة ركزت على طقوس التزاوج عند الطواويس، فخرجت بنتيجة هزت استقرار نظرية علمية كُبرى، وبلورت معنى يكاد يصدح بعنوان ومكنون أولى مسرحيات شكسبير، فلا ينطبق فقط على طواويس الطيور، بل ينطبق كذلك على طواويس البشر!.
وخاب سعى العشاق.. الطواويس!
فى إبريل عام 1860 بينما كان تشارلز داروين يصوغ نظريته حول التطور، كتب إلى صديقه الطبيب وعالم الأحياء «آسا جراى»: «إن مجرد نظرة إلى ريشة فى ذيل طاووس، تصيبنى بالسقم». وعندما نعرف أن داروين كان يعانى كثيرا من آلام معدته واضطراب أمعائه، مما يرجِّح أن معاناته كانت نفس جسمية، نستنتج إلى أى حد كان ريش الطاووس باذخًا وبرَّاق الألوان، خاصة فى مروحة ذيله الهائلة، يُنكِّد عليه عَيشه، ويتحول هذا التنكيد النفسى إلى أعراض معوية عاصفة الإيلام.
كان ذيل الطاووس بريشات كواسيه العلوية مسرفة الإبهار اللونى المُتقزِّح- يشكِّل معارضة قوية الحجة ضد فرضية داروين «الاصطفاء الطبيعى»، التى تعنى أن الكائن الذى يمتلك صفات تمكنه من التغلب على مخاطر وصعوبات البيئة التى ينشأ فيها، يكسب، ويبقى. والعكس بالعكس. فهذا الذيل الطويل الثقيل خلاب الألوان، الذى لا يكف الطاووس عن رفعه ونشره فى مروحة باهرة، بارتفاع يقارب مترا ونصف المتر وعرض مترين- يجعل الطاووس واضحًا لأعدائه ومفترسيه، ويعرقل فراره منهم ونجاته، ويُعجِزه إن اضطر للدخول فى صراع معهم، ومن ثم يخسر، فيهلك وينقرض نوعه. لكنه لم ينقرض!
بعد قرن ونصف
أمام هذا التحدى الذى هدد داروين بنسف نظريته الكبيرة من جذورها، فكر فى فرضية أخرى تَحوُل دون هذا النسف، وسماها «الاصطفاء الجنسى» sexual selection، اقترحها فى كتابه «أصل الأنواع» عام 1859، وبلورها فى كتابه التالى «نشوء الإنسان والانتقاء الجنسى» عام 1871، وتقول بأن ذيل الطاووس تطوَّر ليُعطى الذكر أفضلية فى تنافسه مع الذكور الأخرى على طاووسة يتزاوج معها، لأن الأنثى هى التى تختار، وستختار من تكون ألوان مروحة ذيله أكثر إشراقا، والبقع العينية على الريشات الطوال أكبر وأجمل، كون هذه دلالات على صحة وقوة الذكر الذى تختاره، ليورث ذريتها صفاته المُميَّزة، وتُنتِج أفراخًا أكثر كفاءة للعيش، وأقدر على البقاء.
تخريجة «الاصطفاء الجنسى» التى ألحقها داروين بنظرية التطور، لم تواجه معارضات قوية لفترة طويلة، بل انبرت أصوات عديدة تنحاز إليها مبكرًا وفيما بعد، فعالمة الأحياء «ماريون بتيرى» أكدتها عام 1909 عبر بحثها الميدانى عن الطواويس، مُثبِتةً أن الطاووس «تصعب رؤيته فى الغطاء النباتى المشابه لكثافة النباتات فى بيئته الطبيعية، وأن الطاووسة تتعمد اختيار الذكر الذى يحمل بقعًا عينية أكبر على ريش كواسى ذيلٍ كبيرٍ مبهر، وبتتبع أفراخٍ من أنسال ذكور مختلفين، وجدت أن أبناء الآباء الأكثر زركشة والأبهى ذيولًا، ذوو نمو أسرع، ويتمتعون بمعدل بقاء أطول». وبعد هذا البحث «الانطباعى»- بحكم أدوات عصره البحثية- توالت محاولات تفسيرية متنوعة لهذه التخريجة، وإن لم يخل الأمر من شكوك، واستمرت التفسيرات والشكوك حتى جاءت المفاجأة، فى العقد الثانى من قرننا الحادى والعشرين.
فى عام 2011 فجَّرت طالبة الدكتوراه «جيسكا يورزينسكى»، ببحث مشترك بين جامعة «كاليفورنيا ديفيز» وجامعة «ديوك» مفاجأة أولية، لا تنسف تخريجة داروين، لكنها تقلق ثباتها، وتفتح ثغرات كثيرة فى مزاعم تلاؤم ذيول ذكور الطواويس- الباذخة ومسرفة الظهور والمعيقة لحركة حامليها- مع جدارة الاصطفاء وأفضلية البقاء، مما وضع مفهوم «الاصطفاء الجنسى» الذى طرحه داروين، موضع تساؤل.. على الأقل!
غريزة الأنثى فى بحث علمى
قبل بحث جيسكا كانت هناك ملاحظة شائعة عن الطواويس، تتمثل فى عدم اكتراث الإناث باستعراض الذكور المفرط والمسرف لجمال مراوح ذيولهم، إذ كانت الواحدة منهن تولى هذا الاستعراض التفاتات قليلة، صغيرة وسريعة، بينما هى منهمكة فى نقر الأرض بحثًا عما تأكله. وكانت كثيرا ما تولى «كازانوفا» ظهرها، فكأنه يستعرض نفسه لنفسه. ولم تستوقف هذه الملاحظة الشائعة، المُستغرَبة، معظم الباحثين، برغم تناقضها الواضح مع مفهوم «الاصطفاء الجنسى»، الذى يَفترِض أن هذا الاستعراض الذكورى مُكرَّس لإغواء الأنثى، فما بال الأنثى لا تبالى به؟!
ولعلها غريزة الأنثى البشرية هى التى هدت «جيسكا» للبحث فى حقيقة سلوك أنثى الطاووس، والطريقة التى تفكر بها إزاء استعراضات الذكر طالب القرب، فالأنثى بالأنثى أدرى، ولكن.. كيف يتسنى لجيسكا أن ترى فى الأمر ما تراه الطاووسة؟ هنا، وافرت مسيرة العلم الطويلة وتقنياته المتطورة الأحدث، ما حقَّق للباحثة النظر إلى الأمر من خلال عينى الطاووسة. وجدت جيسكا فى مُتناولها تقنية «تتبع حركة العين» eye -tracking التى طُبِّقت على البشر، وتم تطويرها لتناسب إناث الطاووس، فظهر العجب!
استخدمت الباحثة آلتى تصوير فيديو دقيقتين خفيفتين- لا تزن الواحدة منهما إلا بضعة جرامات- وثبتت الآلتين فى غطاء رأس دقيق شديد الخفة يشبه خوذة طيار منمنمة، وألبست هذه الخوذة للطاووسة فى فترة التزاوج، مُلحقًا بها جهاز إرسال صغير تحمله الطاووسة فى حقيبة صغيرةعلى ظهرها، ليوصل ما تلتقطه كل كاميرا إلى شاشة الحاسوب. وبعد تدريب يضمن أن تتصرف الطاووسة بعفوية فى وجود طاووس يستعرض فتنته وجماله طلبًا للتزاوج، ليس فقط برفع ذيله الباذخ وفتحه كمروحة خاطفة للبصر، بل برقصة حب دوَّارة متمهلة، وصيحات رغبة لا يكف عن إطلاقها بإلحاح. ولوحظ أن الذكر غالبا ما يعمد إلى أداء هذا الاستعراض فى الشمس، لتتألق ألوانه أكثر. عرضٌ فاتن، بالصوت والضوء، فكيف لا يفتن؟!
متابعة حركة العين وما تراه
كانت إحدى آلتى التصوير مخصصة لتسجيل المشهد أمام الطاووسة، والأخرى لتتبع حركات عينيها وهى تقوم بمسح هذا المشهد. فيما يقوم جهاز الإرسال اللاسلكى بإيصال ما تلتقطه آلتا التصوير إلى الكمبيوتر المُزوَّد ببرنامج يحلل مسارات حركة عين الأنثى ويحولها إلى إحداثيات بخطوط صفراء على الصور، وتُعرض على الشاشة.
طبقت الباحثة تجربتها على اثنتى عشرة أنثى من نوع الطاووس الهندى الأزرق PAVO CRISTATUS، وهو النوع الأكثر شيوعًا، وتتميز ذكوره بلون صدورها الأزرق المعدنى المتقزح، والأجنحة البنية المحمرة، والذيول العظيمة طويلة ريش الكواسى التى تبلغ حوالى مائة ريشة ذهبية بطول يقارب مترا ونصف المتر. وكان المُنتظر- قياسا على سابق الانطباع الشائع- أن نظرات الإناث ستتعلق بالبقع العينية الساحرة على كواسى الذيل العظيم البهية، والتيجان الريشية على هيئة زهيرات مخملية زرقاء براقة تتوج رؤوس الخُطَّاب المُتغندرين، فتقع الأنثى فى حب الأبهى ريشًا، والأعظم ذيلًا، وتخضع بالقول: هيت لك. ولكن..
فى قلب المشاهد التى سجلتها آلتا التصوير على رؤوس الإناث ظهر أمام كل أنثى ذكر على مقربة أمتار قليلة، يرفع ذيله وينشر مروحة عملاقة نصف دائرية ويهز ريشها الملون، ترتعش متماوجة بقع العيون على كواسيها مع صوت خشخشة لافتة، ثم يأخذ الذكر منتصب المروحة هذه، يدور بطيئا من جنب إلى جنب، ويتحرك إلى الأمام والخلف، ثم يتجول فى المكان عارضًا مروحته العالية من الخلف، وهنا كانت المفاجأة التى رصدتها تقنية تتبع حركة عيون الطاووسات!
الذكور من المريخ والإناث من الزُهرة
كان مُستقرا فى قناعة «الاصطفاء الجنسى» أن منظر ذيل الطاووس فى رقصة الحب التى يؤديها فى عرض التزاوج، هو الجزء الذى يدير رأس الطاووسة ويجعلها تختاره أبًا لأفراخها، لكن ما باح به تحليل تتبع حركة عين الأنثى، أكد لأنثى البشر أن لأنثى الطاووس رأيًا آخر، تماما كما اختلاف طبيعة رؤية البشر بين الرجال والنساء، وكأن الرجال من كوكب المريخ والإناث من كوكب الزهرة، على حد تعبير الكتاب الشهير للطبيب النفسى الأمريكى جون جراى، الذى كتبه بعد بحث موسع على نفسه وغيره بعد فشل زواجه بمن ارتبط بها بعد حب كبير. صحيح أن الطاووسة كانت تولى بعض النظرات إلى أعجوبة اندياح البقع العينية التى ترصع كواسى ذيل العاشق وهو يرعش هذا الذيل ويخشخش بريشاته، ويمكن أن تضيف نظرة أو اثنتين إلى التويج اللطيف على رأسه، لكنها كانت نظرات خاطفة لا تقطع بأنها وراء اختيار الأنثى لذكر معين تتزاوج معه.
لقد توافرت للباحثة معطيات مدهشة، تقول شيئًا مختلفًا، وجديدًا، وحتى تتأكد مما لاح لها من المعطيات البحثية الأولى، كررت التجربة فى محمية «دورهام» بكارولينا الشمالية، على اثنتى عشرة طاووسة فى وجود عدة ذكور يتواثبون ويتبخترون أمامهن ويستعرضون، لنوال القبول، والفوز بمجد التزاوج. كانت الكاميرات الدقيقة على رؤوس الإناث تصور، وتجهيزات اللاسلكى ترسل الصور إلى الكمبيوتر، والبرنامج على الكمبيوتر يستخلص الإحداثيات ويعرضها على الشاشة، فتقول ما لم يقله بحث من قبل.
عبر تحليل النقاط الصفراء التى ترسم إحداثيات حركة عين الطاووسة على ما تُشاهده، ذهابا وإيابا، وارتفاعا وانخفاضا، وتُحدد فى الوقت نفسه مكان النظرة وفى أى لحظة، وكم تستغرق كل نظرة من الوقت، تبيَّن أن الإناث لم ينفقن إلا ثلث الوقت فى تفقد عروض العشاق! وأثارت هذه النتيجة العامة الأولى دهشة الباحثة، وكان هناك من يهون من حجمها، فعالم الأحياء «أديلاين لويو» المتخصص فى دراسة تزاوج الطواويس، والذى لم يكن مُشاركا فى البحث، علق قائلا «إن الأنثى لا تستغرق كثيرا من الوقت لتقرر من الرابح بقبولها ومن الخاسر، وإناث البشر يحسمن هذا الأمر فى جزء من الثانية عندما يلتقين بشخص جذاب». لكن جيسكا واصلت البحث.
الأنوثة بسلوك عملى وصرامة!
تهوين «أديلاين لويو» من النتيجة الأولية للبحث، سرعان ما أطاحت به التفاصيل، فالتحليل الدقيق للإحداثيات كشف أن نظرات الإناث للذكور الخُطاب المُستعرِضين جمالهم المُزركش، كانت تمعن خارج هذه الزركشة، تدقق فى طول السيقان، والأجزاء السفلية من مراوح الذيول، والقواعد الهلالية تحت منابت ريش الذيول! وبمعنى واضح، كانت هذه المواضع السفلية هى الأهم فى تقييم الأنثى للياقة الذكر وقبوله للتزاوج، فهى تكشف عما إذا كان عليل الصحة أم عظيمها، فالمعروف أن أكثر ما يؤثر فى صحة الطيور من أمراض الإسهال، وهذه السفول التى لا تتحلى بأى ألوان أو بريق، هى التى تكشف عن ذلك، بينما أعالى الذيل خلابة الترييش والتلوين ورسوم العيون، أبعد ما تكون عن كشف الحقيقة العميقة.
ويا لها من مفارقة، فبينما دونجوانات وكازانوفات الطاووس يتبخترون ويتنافخون مستعرضين فتنة ريشهم «الملائكى» العالى، طمعًا فى اختطاف عواطف الإناث، يكون الشغل الشاغل للإناث تفقُّد ما إذا كانوا يلوثون بالإسهال قواعد مراوح ذيولهم الباذخة، أم لا.
نتيجة عملية جدا، صارمة بقسوة، لكنها مقنعة فى عالم يعتمد على جوهر القوة البرية، أى الصحة البدنية فى عالم الحيوان، كما أنه حق مستحق للأنثى التى تدفع فى عملية التزاوج والإنجاب مئات أضعاف ما يدفعه الذكر، ابتداء من حجم البويضة الهائل مقارنة بضآلة الحيوان المنوى، ثم حملها للبيض ووضعه والرقاد عليه حتى الفقس ثم رعاية الأفراخ. ثَمَنٌ هائل يبرر لها أن تختار من يليق بتضحيتها، اختيارا يتحرى صحة الذكر بالجوهر لا المنظر، وهى نتيجة لا تخلو من تناظر مع ما يحدث.. فى عالم الإنسان!
ذيول بشرية لخطف الأبصار
لم يفوّت علم النفس الجماهيرى، أو السيَّار، فرصة استخدام استعراض ذكور الطواويس، فى اختبار لتصنيف الشخصية يسمى DOPE مستخدمًا الحروف اللاتينية الأولى لأربعة طيور تنطبق سماتها على سمات أربعة أنماط لشخصيات بشرية هى: الحمامة والبومة والطاووس والنسر، ويمكن إجمال سمات الشخصية الطاووسية كما ذكرها هذا الاختبار، فى الطابع الاستعراضى المتفاخر بالمظاهر، المدموغ بالخفة والطيش وتقلب الأهواء، مما حدا بواضعيه ومقدميه إلى التشديد على وجوب الحذر فى التعامل مع أصحاب هذه الشخصية، إن فى مجال الأعمال أو العلاقات.
على مستوى أعمق، تم صك مصطلح «متلازمة الطاووس» peacock syndrome، الجامعة لسمات طائفة من الشخصيات- الذكور غالبا- المتباهين بالمظاهر، ثروة كانت أو أزياء أو وسامة أو عضلات منفوخة أو نفوذا، والذين غالبا ما يكونون مصابين باضطراب الشخصية النرجسية المفتونة بالذات، وتتجلى طاووسية المشاهير منهم فى الاستعراض الفارغ بسيارات السباق فاقعة الألوان، والسيارات فائقة البذخ.
وتعميقًا لما سبق وتأصيلًا علميا لجوهره، قامت جامعة تكساس بمشاركة عدة جامعات أمريكية أخرى بإجراء بحث موسع على عدد كبير من البشر، ونُشِرت نتائجه فى مجلة «الشخصية وعلم النفس الاجتماعى» تحت عنوان لافت يجمع بين الطواويس وسيارات البورش الفارهة واسم عالم الاقتصاد والاجتماع «ثورشتاين فيبلن» الذى ركز على دور الطبقة التجارية المتطفلة، المُهدِر لجهود القوى المُنتِجة، بالإفراط فى الاستهلاك المظهرى، وإشاعته فى المجتمع عبر الدعاية المحبوكة وصوره الجذابة والمُضلِّلة.
كما ناظَر ذلك البحث بين ذيل الطاووس الباذخ المُذهَّب وسيارات البورش الفارهة المطلية بالذهب، كإشارات خاطفة للأبصار تهدف إلى إبهار الإناث للحصول عليهن، وكأنما على قاعدة «الاصطفاء الجنسى»، والمدهش أن هذا البحث النفسى الذى أُجرى على مجموعة كبيرة من البشر، منفصلًا تمامًا عن بحث «جيسكا يورزينسكى» على الطواويس، وصل إلى النتيجة المفاجئة نفسها، لاستعراضات طواويس الطيور، والبشر الطواويس؟!
وكان لشكسبير السَبْق!
اتفق بحث جيسكا يورزينسكى فى سلوك الحيوان وبحث جامعة تكساس فى سلوك الإنسان على نتيجة واحدة، هى أن استعراضات الطواويس الطيور بمراوح ريش ذيولها مفرط الزركشة، واستعراضات طواويس البشر بذيولهم الاستهلاكية المظهرية، كلاهما لا يحصد الكثير مقابل الإهدار الضخم الذى يُنفَق فيهما، فإناث الطير يتقصين ما يشير إلى الجوهر لا المظهر، وإناث البشر يدركن أن وراء مظاهر الثراء الاستعراضى للبشر الطواويس- وأغلبهم ذكور- فقرا نفسيا مدقعا وخفة خطِرين، لا تحتملها فى مجال العواطف غير الإناث الخفيفات اللائى يقبلن بالعلاقات العابرة، ويبكين الحب فى النهاية.
أما الإناث راسخات الأنوثة، الطامحات إلى علاقات حب دائمة، تشكل مسيرة عمر، لتكوين أسرة، وإنجاب ذرية من عشاق يشكلن لديهن «حب العمر»، فكن، كما إناث طيور الطاووس، ينظرن إلى ذيول الطواويس البشرية المتباهية باستخفاف، وربما بازدراء، وهذا ما توصل إليه شكسبير مبكرا جدا، فى القرن السادس عشر، فى مسرحيته الأولى «خاب سعى العشاق»، قائلا على لسان الأميرة المُشتهاة فى مواجهة إلحاح العشاق المُدَّعين، برسائل معسولة المبالغة، وهدايا مفرطة البذخ: «استقبلنا غرامكم بما قُصد به أن يكون، كموضوع للفكاهة. جاءتنا رسائل غرامكم ومعها هداياكم، ووجدنا أنها فى باب الغرام لا تتجاوز أن تكون فكاهة ظريفة. أعتقد أن هذه اللحظة لا تكفينا لندخل فى شراكة أبدية»!
يالها من رسالة عِلم، وأدب.
* النَّص (ببعض تصرف الكاتب ليناسب قارئ الجريدة العامة) بالتنسيق مع مجلة «للعِلم» (forscience.com) وهى الطبعة العربية المصرية المجانية لمجلة ساينتفك أمريكان، عبر الإنترنت.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.