«وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ».. بصوتٍ ملائكي وعينين تحملان ريح الجنة، جلس القاري الشاب محمود على البنا، على أريكة خشبيّة، كان شابًا لم يتجاوز عُمره 22 عامًا، طلبوا منه أن يتلو سورة هود كمُفتتح «طيّب» لتسجيلاته بالإذاعة المصرية، إذ لم ينقطع صوته «النوراني» عن أثير الميكروفون بعدها. تقول أساطير الأولين إن والد الشيخ محمود على البنا، الرجل القروي البسيط، نذر لله نذرًا: «لئن رزقتنى ولدًا سأهبه لخدمة القرآن وأهله»، وبالفعل تحققَ النذر. «فشلت في الأزهر لكننى نجحت في القرآن والإذاعة».. هكذا رأى القارئ الشيخ محمود على البنا نفسه، حسب رواية نجله، الشيخ أحمد، في حواره ل«المصرى اليوم»، مؤكدًا أن أباه تحمل مشقة التنقل بين البلاد منذ نعومة أظافره طلبا للقرآن، وقرر التوقف عن الدراسة بالأزهر، مكتفيا بما حصل عليه من إجازة في القراءات، جعلته فيما بعد من المقرئين المتميزين، وأضاف أن والده كان مقلدًا بارعًا للأصوات كما كان لاعبًا بارزًا في الملاكمة والمصارعة. وروى أن والده كان مقربا من الرؤساء والملوك.. وإلى نص الحوار: ■ بداية.. حدثّنا عن نشأة الشيخ محمود على البنا؟ - ولد في قرية شبرا باص، التابعة لمركز شبين الكوم بالمنوفية، في 27 من ديسمبر 1926، ولم يكن لجدى ذكور يعيشون، فدعا الله أن يرزقه بولد يهبه للقرآن، وعندما ولد الابن محمود وعاش سنوات، أوفى جدى بالنذر، فعكف على تربية ابنه في رحاب الكريم، وانتظم الطفل في كتاب الشيخ موسى المنطاش بقرية شبرا باص، والذى اكتشف موهبته وأعطاه اهتماما أكثر. ختم الطفل القرآن في سن العاشرة، ثم انتقل للدراسة في معهد طنطا الأزهرى، فبدأ ينهل العلم ويتزود بالمعرفة، ويذهب في نفس الوقت إلى المناسبات الدينية للاستماع إلى المقرئين، إذ ارتبط عقل وقلب الصبي بالمقرئين، وانشغل بالسؤال عن مواعيدهم، وكان يقلدهم لزملائه حتى ذاع صيته في طنطا. ■ وهل أكمل دراسته في الأزهر الشريف بمعهد طنطا؟ - الحقيقة لم يكمل دراسته في الأزهر، لانشغاله بالقرآن الكريم، وكان يقول عن نفسه: «أنا فشلت في الأزهر ونجحت في القران والإذاعة»،.. وكان شيخ المعهد الأزهرى، واسمه حسين معوض، سمع تلاوته فأعجبته، ولما طلب درجاته في المواد المختلفة، اكتشف ضعفه في الرياضيات والعلوم وبعض المواد، فنصحه بتعلم القراءات العشر على يد الشيخ إبراهيم سلام المالكى بالمسجد الأحمدى بطنطا، وأتم بالفعل حفظ القراءات العشر سنة 1945، وهو العام الذي شهد نقلة في حياة الشيخ، فانتقل للعيش بالقاهرة. كانت القراءة وقتها تدر عليه دخلا ميسورا يعيش بجزء منه ويرسل الباقى لأسرته، وفى حى شبرا بدأ حياة مغايرة، فمارس هواية المصارعة والملاكمة، وكان لاعبا ماهرا فيهما، وانضم لجمعية الشبان المسلمين، وظل محافظا على لياقته فترة طويلة لكنه لم يوفق في الجمع بين عمله والرياضة، وتم تعيينه قارئا بالجمعية وتوسعت علاقاته حتى عرف الناس الشيخ محمود البنا. ■ ومتى انضم للإذاعة المصرية؟ قال عنه أبو العينين شعيشع: «لقد قبض الله تعالى رجالا أفذاذا أفنوا حياتهم في خدمة القرآن الكريم وتلاوته وتجويده على مر العصور والأجيال، من هؤلاء العظام، كان الشيخ محمود على البنا، ذلك الرجل الذي نذر نفسه ووقته لخدمة القرآن وتلاوته». - بعد تعيينه قارئا بجمعية الشبان المسلمين، زاد مريدوه والمعجبون بصوته، وذات مرة، طلبه صالح باشا حرب، أحد قيادات الجمعية، لقراءة القرآن ليلة رأس السنة الهجرية بدار الأوبرا القديمة، وكانت الإذاعة تنقل الحفل على الهواء، ورفض القائمون عليها أن يقرأ وهو غير معتمد بها، واقترحوا أن يقرأ الشيخ محمود ما تيسر من القرآن قبل بداية الحفل، وبعد انتهائه من القراءة، توجه إليه رئيس الإذاعة، وطالبه بالتقدم للاختبارات التي انتهت بأن أصبح أصغر قارئ بالإذاعة، ولم يكن عمره يتجاوز ال22 عاما سنة 1948. ■ وماذا عن أول أجر حصل عليه والدك؟ - لا أتذكر أول أجر له قبل الإذاعة، لكن أعرف جيدا أول راتب تقاضاه من عمله بالإذاعة، والذى أحدث مشكلة كبرى تحدث بها كل العاملين بالإذاعة في ذلك الوقت، حيث اعتمدت له الماليات مبلغ 6 جنيهات شهريا، ما أغضب عددا من المقرئين المعتمدين قبله، وقالوا لا يجوز أن يأخذ صبى نفس المرتب الذي نتقاضاه ونحن أقدم وأكبر منه سنا، وتقدموا بشكاوى لرئيس الإذاعة، واستمرت المناوشات فترات طويلة لكنها لم تفلح، وقدر الله لأبى أن يحصل على المبلغ كاملا. ■ وكيف سارت حياته بعد اعتماده قارئا رسميا بالإذاعة؟ - أول شىء بعد اعتماده، تم تعيينه في مسجد عين الحياة بشارع مصر والسودان، واستقر في منزل بالإيجار أمام المسجد، ثم انتقل إلى مسجد الإمام الرفاعى، بعدها عين إماما لمسجد الحسين، لكنه لم يهنأ بالتعيين، ووجد المكائد والحيل تقلقه وتقطع نومه وتشغل باله، حتى اتهمته إدارة الأوقاف بأنه «صاحب صوت يؤدى إلى تهليل الجمهور وعلو أصواتهم وهو أمر لا يجب أن يحدث داخل الحسين» وبعدها تم نقله إلى المسجد الأحمدى بطنطا، وبقى القارئ الذي أدار المؤامرة بمسجد الحسين. وفى «السيد البدوى»، كانت مهمته القراءة قبل صلاة الجمعة فقط، وظل يعمل به طوال 25 عاما، وتحققت دعوة والدته وهو طفل، عندما أخذته لزيارة المسجد ودعت الله أن يجعل ابنها خادما لهذا المكان، الذي كان باب الخير على والدى، حيث نال الشهرة الواسعة من هناك. ■ وماذا عن طباعه الشخصية؟ - تميز بالهدوء الشديد وتركيزه في عمله بشكل كبير، لدرجة أنه لم يكن يحب أن يحدثه أحد أثناء استعداده للنزول إلى التلاوة، وكان حازما وحاسما، بمعنى أنه صاحب قرار وليس مترددا، وعاش محبا للنزاهة والملابس، فقد كان من أشيك القراء في تاريخ مصر، حرص على شراء الكاكولا والقفطان والعمامة من أشهر المحلات، واعتاد لبس الجلباب بالمنزل ولم يخرج إلا بملابسه الرسمية، وكان الشيخ الشعراوى رحمه الله يستحسن الجلوس معه وسماعه، وهو يقلد المشايخ الكبار أمثال محمد رفعت وعبدالباسط ومصطفى إسماعيل، وكان يضحك الإمام ويقول له: «أنت موهوب يا شيخ محمود». ■ هل أحبّ ومارس الملاكمة والمصارعة كما يُقال؟ - كان والدي منذ طفولته محبا للرياضة يمشي كثيرا ويجري أيضًا في المساحات الواسعة، وعندما استقر بالقاهرة وتم تعيينه قارئا رسميا للقران الكريم بجمعية الشبان المسلمين، وجدها فرصة لممارسة رياضات المصارعة والملاكمة، إذ ظل محافظًا على لياقته فترة طويلة، حتي أصبح معروفًا بأنه لاعب ماهر. في إحدى المناسبات، كان يقرأ «البنا» في مسجد، وشاهد اثنين من الإنجليز مخمورين يدخلون المسجد، فتوقف عن القراءة واتجه اليهما وقام بضربهما بقوة ثم اخرجهما من المسجد. ■ هل تتذكر أصعب المواقف التي عاشها والدك؟ كان والدي صاحب نفسية هادئة، لاينزعج بسهولة، عاش متوكلا على الله، لذا فكانت أوقاته كلها رضاء بما قدره الخالق، ففي أحد الأيام، كنت مصاحبًا له في زيارة للسويس بهدف رفع الروح المعنوية لجنودنا عام 1968، وكان يقرأ بمسجد الشهداء وبينما هو مسترسل في القراءة، إذا بغارة اسرائيلية تهز أركان المسجد، ما أدى إلى قلق وترقّب الجميع، بينما ظل هو ساكنًا واستمر في القراءة دون توقف، إذ قال فيما بعد: «نحنُ في حضرة القرآن». ■ كيف كانت علاقاته بالملوك والرؤساء؟ - كانت له علاقات طيبة مع عدد كبير من الحكام والمسؤولين، فمثلا من أكثر الناس الذين ارتبطوا بأبى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رئيس دولة الإمارات الراحل، وتعرف على والدى في إحدى المناسبات بالقاهرة، وأعجب بصوته وصارت بينهما ألفة وصداقة، وسافر أبى إلى الإمارات كثيرا لتلبية دعوته لإحياء حفلات ومناسبات حتى وفاته، وكان الملك فيصل طلب من أبى تسجيل القران مرتلًا ومجودا بإذاعة المملكة العربية السعودية ومن بعدها أصبحا صديقين. وفى مصر عاصر الوالد الرؤساء جمال عبدالناصر وأنور السادات ومبارك، واقترب منهم، إذ كان لعبدالناصر الفضل بعد الله في أن يسجل أبى المصحف المرتل، كما يرجع للسادات الفضل في تأسيس نقابة المقرئين، وهو الذي أمر شخصيا بإنشائها بعدما اشتكى والدى صوفى أبوطالب، رئيس مجلس الشعب وقتها للسادات لتأخر قانون نقابة القراء بالبرلمان، واستجاب الرئيس له، أما الرئيس الأسبق حسنى مبارك فقد أهدى والدى وسام العلوم والفنون تقديرا لجهوده في الإذاعة. ■ ومن كانوا أقرب الأصدقاء للشيخ؟ «كان قارئا مميزا في تلاوة القرآن، وكانت تلاوته تأخذ في قلب المستمع عمقًا ونسقًا غير مألوف، يجعله يتفاعل مع التلاوة، وكان من خيرة القراء الذين أوصلوا القرآن بأصواتهم إلى أرجاء المعمورة» - كان أقربهم فضيلة الشيخ محمد متولى الشعراوى، فقد كانا صديقين ارتبطا معا سنوات طويلة، وأتذكر أن والدى في أثناء عمله بمسجد الحسين كان يوميا يلتقى الشيخ الشعراوى في منزله المواجه للمسجد، حتى توفى وكانت وصيته أن يكون الشيخ الشعراوى ضمن تشريفة الجنازة، ولا ننسى علاقته باللواء أحمد رشدى، وزير الداخلية الأسبق، والذى زارنا في المنزل مرات عديدة، وكان يقول عنه إنه رجل شريف ومخلص لوطنه، ومن أصحابه أيضا اللواء محمد عبدالحليم موسى، وزير الداخلية الأسبق. ■ هل تدّخل والدك في تعيين أبناء الشيخ البنا في مواقع مرموقة؟ - لم يحاول أبي التدّخل في تعيين أخوتي، كان حريصًا على تعليمنا جميعا وحصولنا على شهادات عليا، اتذكر أن شقيقي، اللواء شفيق، عندما أراد دخول الأكاديمية الفنية العسكرية بعد كلية الهندسة، لم نعرف أبدًا أن والدي توسط له في الأمر، حتى بعد أن انتقل «شفيق» للعمل برئاسة الجمهورية، لم يكن بسبب الوساطة، بل أن الرئيس السادات شخصيًا أصدر أوامره بأن ينقل كل من عمل في قصر الطاهرة إلى رئاسة الجمهورية. وأنا أيضًا عملت في شركات خاصة، دون تدخل من أبي، وأشقائي منهم الطبيب والصحفية عملوا بمجهوداتهم فقط. ■ أنت الوحيد بين أشقائك اخترت أن تكون قارئا مثل والدك.. لماذا؟ - في الحقيقة أننى منذ الصغر كنت شغوفا بقراءة وتلاوة القرآن الكريم، خاصة أن والدنا اهتم بتحفيظنا القرآن حتى أتممناه جميعا، ثم مرت الأيام والسنون وأنا أقلد والدى عندما تسنح الفرصة، وذات مرة قال لى أنا عاوز أسمعك، وبمجرد أن بدأت أوقفنى، وبدأ تلقينى دروسا في فنون القراءة، لكنى لم أمارس التلاوة الرسمية قبل وفاته، والحمد لله تعلمت القراءات والموسيقى وحصلت على قدر من العلم فيهما، والآن أنا أسير على درب الأب رحمة الله عليه. ■ أخيرًا.. نرغب في معرفة نبذة عن مرضه ووفاته؟ - في عام 1985، تحديدًا بعد شهر رمضان بعد عودته من أبوظبى التي كان قد أحيا فيها ليالى الشهر المعظم، كان مرهقا، وطلبنا منه الذهاب إلى مستشفى السلام الدولى للاطمئنان، وبعد الفحوصات الطبية اكتشفنا أنه في مرحلة متأخرة من المرض الخبيث، وجلس في المستشفى أسبوعين كنا معه فيها، ولا أنسى قبل وفاته بأيام قليلة طلب منى أن اجمع أشقائى ووالدتى وجلس معنا قائلا: «الميراث كما جاء في شرع الله للذكر مثل حظ الأنثيين وأنا ليس على أي ديون وأنصحكم بدوام الحب بينكم والالتزام كما عهدتكم»، ثم قال لى هات ورقة واكتب «توفى إلى رحمة الله تعالى الشيخ محمود على البنا عن عمر يناهز ال60 عاما»،. وطلب منى إرفاق صورته مع النعى، ثم قال «عايز أشوف الشيخ الشعراوى»، وبالفعل جاءه الشعراوى وجلسا معا قرابة الثلاث ساعات لم نسمع ما تحدثا فيه، لكن الإمام الكبير خرج باكيا، ثم أخذ والدى يتحدث بصوت عال، قائلا: «أنا إيه اللى معطلنى»، وبعدها تحدث لشخص لم نره «أهلا اتفضل اتفضل وسعوا يا أولاد» ثم فاضت روحه إلى بارئها في 20 يوليو عام 1985، وكان على رأس الجنازة الشيخ الشعراوى وقيادات كبرى بالمنوفية، وتم دفنه في المدفن الخاص به بجوار المنزل، الذي كان قد أسسه قبل وفاته.