كل الثورات لها ثمن اجتماعى واقتصادى، والثورة المصرية كانت تكلفتها الفعلية من حيث تباطؤ الاقتصاد وزيادة البطالة أقل بكثير من الثورات التى حدثت فى وسط وشرق أوروبا، ولكن ما تفعله الحكومة اليوم من خطوات هو الذى سيحدد طول الفترة المطلوبة لضبط إيقاع الاقتصاد والتكلفة النهائية التى تم تكبدها. هذا وقت مهم لمصر لأن ما تقوله الحكومة هذه الأيام وما تتخذه من قرارات سيكون له تأثير كبير على الاقتصاد والاستثمار لشهور طويلة قادمة. إن القرارات الاستثمارية تتشكل من واقع الحقائق على الأرض والخلفية الاقتصادية للبلاد والتوقعات المستقبلية لها، بالإضافة إلى مجموعة الإجراءات والقرارات الحكومية التى تؤدى إما إلى تشجيع المستثمرين على دخول السوق أو التردد والانتظار لمزيد من الوضوح للرؤيه المستقبلية. لقد مر أكثر من شهرين على الحكومة الانتقالية وهذا ليس وقتاً كافياً للحكم عليها أو على إنجازاتها أو لتوقع أى إنجازات، ولكن كان عندهم بالتأكيد الوقت الكافى لوضع تصور لسياسة اقتصادية فى خطوات زمنية واضحة نستطيع من خلالها تقييم التقدم المزمع إحرازه، وأيضا تستطيع أن تضطلع بها الحكومة الدائمة فى المستقبل لتحقيق المكانة التى نريدها ونستحقها. وهناك مواضيع حيوية تجب معالجتها قبل أن نستطيع أن نتكلم عن الاستثمار: أولاً- الحاجة إلى الأمن والاستقرار: لا يفوتنا هنا التوجه بالشكر إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة على وعده باتخاذ إجراءات رادعة ضد كل من تسول له نفسه العبث بمقدرات الوطن، فلن تكون هناك استثمارات طويلة الأجل إذا كان هناك أى شك فى انتظام العمال فى عملهم، وأن البلاد عازمة على عودة الاستقرار. ثانياً- عجز الموازنة: أنا لا أستطيع أن أصدق أن ميزانية الإنفاق الحكومى السنوية التى تقرب من 400 مليار جنيه يتم إنفاقها كلها فى المكان الصحيح. نحن نعلم ونقول إن الحكومة السابقة قد أساءت إنفاق وتوجيه الموارد الحكومية، ولكن إلى الآن لم نسمع أن هناك أى تغيير قد حدث فى توجيه هذه الموارد أو أى جهد قد تم بذله لترشيد الإنفاق. وربما كان من أحد عوامل بناء الثقة للحكومة إعلانها أنها قامت بدراسة الموازنة بعناية، وأنها قد توصلت إلى خطة محددة للتقليل من عجز الموازنة. إن عجز الموازنة ليس رقماً نظرياً بل له تأثيرات على الاقتصاد، فهو لا يحد فقط من قدرة ومرونة الحكومة فى إنفاق المال لتحفيز الاستثمار والنمو، ولكنه قد يتسبب أيضا فى زيادة الكساد. فعلى سبيل المثال لقد علمت مؤخرا أن الحكومة لا تقوم بدفع مستحقات المقاولين عن أعمالهم التى أدوها للمشاريع الحكومية لأنها لا تريد زيادة العجز لديها باقتراض المزيد من المال لدفع هذه المستحقات. ولكن أى تأخير فى دفع هذه المستحقات سيؤدى لعجز المقاولين عن سداد أقساط قروضهم للبنوك، مما سيؤدى إلى تجميد التسهيلات التى تمنحها البنوك لهؤلاء المقاولين وسيسفر هذا عن توقف المشروعات. الخاسر الأول من هذا سيكون عمال اليومية الذين لا يملكون أى مصدر آخر للدخل. يجب دفع مستحقات المقاولين فورا. فإهمال دفع مستحقاتهم سيدفع بالبلاد نحو مزيد من الكساد وسيدفع الثمن أولا عمال اليومية، علما بأن مستحقات المقاولين عن أعمالهم المؤداة هى التزام على الحكومة فى كل الأحوال، ويجب أن تدرج فى الموازنة، ولا يؤثر فى العجز تأجيل دفع هذه المستحقات الآن أو فى وقت لاحق. مهمة الحكومة الانتقالية ألا تفعل شيئا يورط الأجيال القادمة.وهذا يعنى عدم اتخاذها قرارات بالاقتراض تكبل البلاد بالمزيد من الديون التى سنلتزم بدفعها لعقود قادمة. كما لا ينبغى للحكومة الانتقالية التورط فى أى مشاريع طويلة الأجل دون دراستها جيدا وهذا يستغرق شهورا. مهمة الحكومة الحالية هى حسن إدارة موارد الدولة الحالية، وأن تترك التخطيط طويل الأجل للحكومة الدائمة، وإلا فإننا سنجد أن أى حكومة قادمة سيكون أمامها القليل من الخيارات، مما سيصعب من مهمتها كثيرا.