في هذا الموضوع نلقي نظرة موجزة على موقف الشرع الحنيف ، بلا مجاملة ولا تجديف ، من محاكمةِ الرئيس المخلوع ، حيث بقي الأمر بالنسبة للشارع المصري سياسة ، الأمر الذي جعل الناس منه يترددون بين الشماتة والخنوع . والشماتة : هي الفرح ببلية العدو وما نزل به ، والخنوع هو التنازل عن الحق ، والرضا بالقهر ، استضعافا للنفس ومذلة ، وإكبارا للرئيس في غير محله . وكلاهما ضرر بدين المسلم والمسلمة . والمتفحص لأحوال الناس بعد خلغ الرئيس ، يجدهم وقعوا بين الشماتة والتهييس ، والخنوع والتتييس . فأما أهل الخنوع فيذرفون الدموع ، ويبكون المخلوع ، يقولون : تحاكموا الرئيس وتسجنوه ، وتدينوه لتعدموه ، إنها لأحدى الكبر ، كيف وقد كان بالأمس لا يتقدم شيئ أو يتأخر إلا وعن إذنه صدر. وكيف نحاكم الرئيس ونحن أشاوس كرام ، نرى في محاكمته إجرام ، بل نراه في الشريعة حرام .... ورثاء وبكاء ورجاء ، لا يصدر إلا من مهاويس أو تيوس . وأما الشامت : فله كل يوم نكتة ، وقائل على مرضه كذبة ، وفي سجنه يكتب طرفة ، وعلى حبل مشنقته ينتظر فرجة ، في نكات كثيرة فارغة ، لا تصدر إلا من قلوب أعمتها الفرحة ، فأنستها العبرة بالترحة ، فلم يخرج منها عبرة لما رأت العبرة ، في من كان على غده مطمئن ، كيف أخذ على غرة ، وربما يكون فيهم وبينهم من هو أظلم منه لأمه وأبيه ، أو لأخته وأخيه ، وفي بطنه من أموال الناس ما لو اجتمعت نيرانه لأكلته وجيرانه . والمهم أن في كل من المسلكين جفاء وبعد عن أحكام الشريعة الغراء . وحتى لا نخبط خبط عشواء ، ويقع بعضنا في حبال من قالوا للحلال حرام ، ووصفوا القصاص العادل بالعداء ، ولا في مصيدة الشماتة بالنكات ، لا بد أن نقف على حكم الشريعة في هذه النازلة . أولا : المحاكمة والقصاص : في هذا الجانب ترى الشريعة أن أمر الرئيس في أحكام القصاص ودفع عوض المتلفات التي خربها كشأن غيره من سائر الرعية ، ليس له في ذلك على أحد منهم مزية . وكيف يكون له مزية وقد قدم سيد البرية صلى الله عليه وسلم نفسه للقصاص منه ، وقام بدفع عوض مالي عن بعض ولاته لما وقعوا في بعض الرعية . ولنا فيه خير أسوة ، وعلى أساس فعله انبنت فتوى أجمعت عليها الأمة . النص الفقهي لهذا الإجماع : فقد أجمع العلماء على أن السلطان واحد من الناس ، وإنما له مزية النظر لهم كالوصي والوكيل ، وذلك لا يمنع القصاص منه ، وعلى هذا الأساس قرروا أن الحاكم أو السلطان يضمن ما أتلفه بيده من مال ، أو نفس ، بغير خطأ في الحكم أو تقصير في تنفيذ الحد والتعزير ، مثله في ذلك كآحاد الناس ، إذ هو والمعتدى عليه نفسان معصومتان كسائر الرعية . فيقتص منه إن قتل عمدا ، وتجب الدية عليه أو على عاقلته أو بيت المال في الخطأ وشبه العمد ، ويضمن ما أتلفه بيده من مال ، كما يضمن ما هلك بتقصيره في الحكم ، وإقامة الحد والتعزير ، بالقصاص ، أو الدية من ماله ، أو عاقلته ، أو بيت المال ، حسب أحكام الشرع ، وحسب ظروف التقصير وجسامة الخطأ . وإذا وقع منه شيئ من ذلك وهو على كرسي حكمه فإن عليه أن يقتص من نفسه ، لأنه في ذلك ليس بينه وبين العامة فرق في أحكام الله عز وجل ، لقوله جل ذكره : { كتب عليكم القصاص في القتلى } . الدليل على ذلك من الشرع الحنيف : ودلل الفقهاء على هذا من الشرع الحنيف بأن أعلى الخلق نفسا صلى الله عليه وسلم أعطى القود من نفسه وسأل من له عنده مظلمة أن يقتص منه لنفسه ، وفي ذلك روى الأئمة أحاديث ومواقف متعددة للنبي المصطفى مع سواد بن عمرو ، وأسيد بن حضير ، ورجل آخر ، وروى الطبراني أنه صلوات الله عليه طلب إلى الناس ذلك في آخر حياته الشريفة . وعلى منهاجه سار الخلفاء من بعده مع أنفسهم ومع أمراء الأمصار ، فَقد روى الأئمة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ذلك . قال الشافعي رحمه الله : وبلغنا أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه ولى رجلا على اليمن فأتاه رجل أقطع اليد والرجل فذكر أن والي اليمن ظلمه فقال : إن كان ظلمك لأقيدنك منه ..... قال الشافعي : وبهذا نأخذ ، إن قتل الإمام هكذا . يعني : كما في القطع يقطع ، كذلك في القتل ، إن قتل يقتل . وكذلك كان عمر رضي الله عنه يقيد من نفسه ، وممن تعدى من أمرائه ، وأصدر في ذلك مرسوما خطب الناس به ، وفي خطبته روى أبو داود في السنن عن أبي فراس قال : خطبنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم ، فمن فعل به ذلك فليرفعه إلي أقصه منه . فقال عمرو بن العاص : لو أن رجلا أدب بعض رعيته أتقصه منه ؟ قال : إي والذي نفسي بيده أقصه ، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أقص من نفسه . ومن تطبيقه ذلك عمليا على الأمراء الكبار ، ما رواه البيهقي في قصة أبي موسى الأشعري مع الفارس الذي استقل حصته من الغنيمة فضربه أبو موسى لاعتراضه عليه عشرين سوطا وحلق رأسه ، فجمع الرجل شعره وذهب به إلى عمر وشكا إليه ما كان من أميره . فأرسل الفاروق عمر إلى أبي موسى رسالة يقول له فيها : سلام عليك / أما بعد : فإن فلان بن فلان أخبرني بكذا وكذا ، وإني أقسم عليك إن كنت فعلت ما فعلت في ملأ من الناس جلست له في ملأ من الناس فاقتص منك ، وإن كنت فعلت ما فعلت في خلاء فاقعد له في خلاء فليقتص منك . فلما بلغت الرسالة إلى أبي موسى امتثل للأمر وجلس للرجل ليقتص منه ، فلما رأى الرجل أنه من حقه متمكن ، رفع رأسه إلى السماء وقال : قد عفوت عنه لله ثانيا : العوض المالي ( الدية ) وعوض المتلفات . من مال الرئيس المخلوع إن كان له مال ، أو من غيره متبرعا عنه . سبق وقلنا إن الفقهاء قرروا في إجماعهم أن الحاكم أو السلطان يضمن ما أتلفه بيده من مال ، أو نفس ، بغير خطأ في الحكم أو تقصير في تنفيذ الحد والتعزير ، مثله في ذلك كآحاد الناس ، وهنا نقف مع العوض المالي وهو الدية ، وهو العو المالي الذي يدفع القاتل من خلاله مالا ( دية ) لأولياء المقتول إذا رضوا بذلك ، من ماله أو مال أسرته ، أو مال متبرع عنه من صديق أو حليف . وهذا أيضا أمر أرشد الله تعالى إليه في كتابه وعلى لسان نبيه ، وفي ذلك قال تعالى بعد حكمه بالقصاص : { فمن عفي له من أخيه شيء فٱتباع بٱلمعروف وأدآء إليه بإحسان ذٰلك تخفيف من ربكم ورحمة } البقرة : 178 . ومن وقائع السنة في تبرع النبي صلى الله عليه وسلم بإرضاء المعتدى عليه بالمال ما رواه البيهقي وغيره عن عائشة رضي الله عنها في إرضاء النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من بني ليث بالمال مقابل مطالبتهم بالقصاص من عامله على الصدقة ، ( وهو بمثابة وكيل من وكلاء وزارة المالية ) حيث ضرب من رجال الليثيين رجلا فشجه ، فأرضاهم النبي بالمال ليتنازلوا عن القصاص ، وجعل يزيدهم حتى رضوا . وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم الناس بأنه أرضى الليثيين بالمال عن حقهم في القصاص حتى رضوا . وكانت هذه سنة من رسول الله للناس فيها قدوة وأسوة ، وللراضين من العرب وهم أهل النخوة بهذا الحكم أيضا أسوة لنا . وفي واقعة من وقائع الصحابة الخلفاء في هذا الهدي ما كان من الصديق رضي الله عنه وهو خليفة في حضور قاضيه عمر رضي الله عنه ، حيث روى الأئمة أن أبا بكر دخل مستودع الصدقات وأذن للحاضرين من جموع الناس بالدخول ، ثم أغلق الباب ، فاقتحم رجل المستودع بغير إذن ، وقد حمل بيده خطام ناقة ، فلما رآه الصديق قال : ما أدخلك علينا . ثم أخذ منه الخطام فضربه ، فلما فرغ أبو بكر من قسم الإبل دعا بالرجل فأعطاه الخطام ، وقال : استقد . يعني : اقتص مني . فنصحه عمر بإرضاء الرجل من ماله حتى يرضى ، فأرضاه الصديق من حر ماله حتى رضَي الرجل . وهكذا السنة في واقعة الرئيس المخلوع ، بعد حق الأمة في القصاص العادل ، إن وجد في الناس من يتبرع بمال عنه ، أو يعطي هو من ماله لأولياء الشهداء حتى يرضوا ، فلا مانع من ذلك ، ولا مانع أن يسعى بعض رجال الدولة من المجلس العسكري ورئيس الوزراء لإرضاء أولياء الشهداء . كل ذلك كان لا مانع منه تمشيا مع السنة . وقبول مثل هذا والأخذ به أروح لنفوس طائفة من أبناء هذا الشعب ، ولا ضير فيه ولا عيب منه إن رضي أولياء الدم والجرحى ، حيث أن التبرع بقبول الأيسر بعد القوة والقدرة يعتبر عفو لا خنوع . وقد رأينا من سلفنا قوة في نفوسهم ، ورحمة في تصرفاتهم ، وذلك عندما أقام الخلفاء أنفسهم للقصاص العادل ، فقاموا هم بعد التمكن بالعفو ، منهم من عفا بالمال ، ومنهم من عفى متبرعا لله عز وجل ، فعفوا عنهم إكبارا لهم ، ولقد كانت هذه الأخيرة طريقتهم ، وفي ذلك روى البيهقي عن ابن شهاب الزهري قال : أن أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهم أعطوا القود من أنفسهم فلم يستقد منهم وهم سلاطين . هذه هي سنتنا وسنة سلفنا التي ينبغي أن نقوم ببيانها للناس بتفصيل وتوضيح من خلال شاشات التلفزة وغيرها من وسائل الإعلام ، ليكون للناس خيار من الدين فيما يأخذون وما يتركون ، وبهذا نكون خرجنا من بكاء الخانعين وأناتهم ، وأجبنا الثائرين وأخذنا بثأرهم . ونختم الكلام بهذا الحديث الَّذي أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : " ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم رفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو " . الجزء الثاني : الشماتة . وقبل الاستطراد في حديثها أحب أن أقول والله على ما أقول شهيد : أنه كانت لي دعوة أدعو بها على مبارك أيام حكمه ، وكنت أرددها دائما ، فأقول : اللهم موتة كموتة شواشسكو . وكنت أدعو بذلك رغم غيبتي عن سماء عرشه نصف مدته ، مواساة مني لأهلي في مصر . أما اليوم وقد كان ما كان وصار أمره إلى ما أرى وأسمع فإني أتعوذ بالله من الشماتة وأخشى أن أقع في حبالها ، أو أن تستخفني النكات فأنساق معها شامتا . وما ذلك إلا لأن الشماتة ليست من أخلاق الإسلام حتى ولو من الأعداء بل إنها تجرح الإيمان وتطعنه في مقتل . هذا بالنسبة للشامت . أما المشموت به : فإن لسان الشماتة أشد على قلبه من الأذى بالضرب ، بل قد تكون أحيانا أشد نكاية فيه من البلاء الذي وقع به ، وقد روي أنه قيل لأيوب عليه السلام : أي شيء من بلائك كان أشد عليك ؟ قال : شماتة الأعداء . فالشماتة من أقسى الأشياء على النفوس مهما كانت ، ولذلك علمنا النبي في تعوذاته أن نتعوذ بالله منها ، وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه ؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تعوذوا بالله من جهد البلاء ، ودرك الشقاء ، وسوء القضاء ، وشماتة الأعداء " . وروى الحاكم وابن حبان أنه عليه الصلاة والسلام كان يدعو : " اللهم لا تشمت بي عدوا حاسدا " . وقد حكى الله عز وجل عن هارون عليه السلام أنه قال لأخيه : { فلا تشمت بي الأعداء } والشماتة أثر من آثار القوة الغضبية في القلب عندما تخرج عن حد الاعتدال إلى الإفراط ، فهذا الإفراط يدفع إلى إظهار الشماتة بمساءة المغضوب عليه ، والحزن بسروره ، والعزم على هتك ستره ، والاستهزاء به ، وغير ذلك من القبائح . وهذا كله مما يحسبه الناس هينا وهو عند الله عظيم ، فقد ذكر علماء الأمة أن الفرح بمصيبة العدو مذموم جدا ، لأنه ارتكاب للمنهي عنه على لسان الشرع ، ولأنه أيضا اغترار بالأيام وتقلبها ، فلربما انعكست الأيام وعادت بالبلاء على الشامت وسلم المشموت به . وقد روى الترمذي عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تظهر الشماتة لأخيك فيرحمه الله ويبتليك " . غرور الشامت وكبره واغتراره بنفسه : ويعظم الخطر على الشامت بمصيبة عدوه إذا حمل تلك المصيبة على كرامة نفسه بأن يقول : إن مصيبة عدوي إنما هي من كرامتي ، أو كانت لإجابة دعائي ، فما ابتلي هذا بما ابتلي به من هذه المصيبة إلا بإجابة دعوتي عليه . ملاحظة : وهذا واقع للأسف كان ، قرأناه لبعض الناس . والشماتة بهذا المسلك إنما يعظم وزرها عند الله لأنه عجب وتزكية نفس وغرور . فلا يغترن أحد بنفسه ولا ينساقن خلف حبال الشماتة ، فيرتكب معها أوزارا قد تلحقه بعدوه أو تعظم . الواجب الشرعي هنا للخروج من هذا المأزق : وقد يقول قائل : معنى هذا ألا نفرح بما أنجزنا ، وبالظلم بالذي منه نجونا ؟ والجواب : بل نفرح ، وفرق كبير لكنه دقيق بين الفرح والشماته . يتبين هذا بذكر الواجب الشرعي ، ففي مثل حال الرئيس المخلوع الواجب أن يكون فرحنا بزوال الظلم ، حيث أراح الله العباد بما وقع في دولته من ظلم ، لا بإصابة البلاء والمصيبة له ، وشتان ما بينهما ، فهذا فرح محمود ، والفرح بإصابة البلاء مذموم . ومسلك آخر للتخلص من مذمة الفرح بالبلاء وهو : أن نرجوا أن يكون ما وقع له من البلاء زاجرا لغيره من الظلمة وعبرة يعتبرون منه فينزجرون عن إتيان مثله . وبهذا لا يكون الفرح مذموما بل غيرة في الدين ، والغيرة من الإيمان . قال بعض العلماء : كن غيورا لله واحذر من الغيرة الطبيعية الحيوانية أن تلبس عليك نفسك بها ، والميزان أن الذي يغار لله إنما يغار لانتهاك حرماته على نفسه وعلى غيره . وكذلك إن قدر الله وأماته ، فليكن الفرح بانقطاع الظلم والشر ، فقد ذكر المناوي أن العز ابن عبد السلام أفتى بأنه لا ملام بالفرح بموت العدو ، من حيث انقطاع شره عنه وكفاية ضرره . وبهذا نكون قد فرحنا بفضل الله ورحمته علينا وبنا ، دون التعلق بالنكات الفارغة ، التي تظهر الشماتة الجارحة . قال العلماء : والكمال المطلق : هو اعتدال القوة الغضبية بأن لم يكن فيها تفريط ولا إفراط ، وإنما تكون طوع العقل والدين ، فتنبعث حيث وجبت الحمية ، وتنطفئ حيث حسن الحلم ، وهذا هو الاستقامة التي كلف الله بها عباده ، والوسط الذي مدحه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " خير الأمور أوسطها " . فمن أفرط أو فرط فليعالج نفسه إلى وصولها إلى هذا الصراط المستقيم أو إلى القرب ، ولا ينبغي لمن عجز عن الإتيان بالخير كله أن يأتي بالشر كله ، فإن بعض الشر أهون من بعض ، وبعض الخير أرفع من بعض ، والله تعالى من فضله يعطي كل عامل ما أمله ، وييسر له ما توجه إليه وأم له . هذا خلاصة ما قصدت إليه والله حسبي وهو نعم الوكيل . وكتبه / محمود عبد العزيز سليمان . ماجستير في الحديث وعلومه، كلية أصول الدين ، جامعة الأزهر.