أول محاكمة غنائية علنية (6)

اتبعت هيئة المحكمة الغنائية فى فحص وتمحيص باقى الأغنيات الخمسة محل الخلاف، نفس الأسلوب والمنهج الذى اتبع فى أغنية «إنت وبس إللى حبيبى»، وبُرئ بسببه الشاعر «مرسى جميل عزيز» من تهمة السرقة، وجاء الحكم فى النهاية على النحو التالى: «أولاً: يميل الرأى العام للنقاد إلى تبرئة (مرسى جميل عزيز) من تهمة السرقة فى عشر أغنيات، وهناك رأى آخر يميل إلى اتهامه بالاقتباس فى أغنيتين، هما (يابو رمش بيجرح) و(يامّه القمر ع الباب)، ثانياً: يُجمع النقاد تقريباً على أن موهبة (مرسى جميل عزيز) لا شك فيها، وحتى الذين يسلمون من النقاد بأن مرسى جميل قد استعار شيئاً من الآخرين، هناك شبه إجماع على أن مرسى يتفوق على الذين أخذ منهم تفوقاً كبيراً وملحوظاً، ثالثاً: قاموس الأغانى عندنا محدود، والكل يأخذ من التراث الشعبى، وهذا سبب كبير من أسباب التشابه والالتقاء بين المؤلفين».
مقالات متعلقة
* أول محاكمة غنائية علنية (5)
* أول محاكمة غنائية علنية (4)
هكذا برأت أول وآخر محكمة غنائية عقدت فى مصر فى العصر الحديث ساحة «مرسى جميل عزيز» من الاتهامات التى رماه بها «جليل البندارى»، ويبرز هنا فى نهاية تلك المعركة سؤال واحد يتخذ الصيغة التالية: لماذا كانت كل هذه الضجة؟ وهو سؤال قد يتولد عنه سؤال فرعى وحيد يقول الآتى: ألم يكن لدى جليل البندارى ومن سانده من شعراء من الحس الفنى ما يكفى لإدراك عقم ذلك الاتهام؟! إن الإجابة على السؤالين سوف تكشف للقارئ والمتأمل فى أسباب هذه المعركة، وهى أسباب يمكن أن تختزل فى سبب واحد هو الغيرة الفنية والمهنية، فأطرافها كلهم من الفنانين فوق الممتازين والمتحققين، سواء الذين جاء اسمهم عرضا كشاعرنا الكبير مأمون الشناوى، أحد أبرز كتاب الأغانى المصريين ورائد من روادها، وصاحب العدد الأوفر من منتجها، وأحد مؤسسى جريدة «أخبار اليوم»، ثم «أحمد شفيق كامل» الدبلوماسى الرقيق وأشهر شعراء الأغنية العرب فى القرن العشرين، الذى ألف أشهر أغانى كوكب الشرق «أم كلثوم»، (إنت عمرى- أمل حياتى- الحب كله- ليلة حب)، واشتهر بلقب «شاعر الهرمين»، لأنه كتب أغانى «أم كلثوم» التى لحنها لها «محمد عبدالوهاب»، ولقب ثان هو «شاعر لقاء السحاب» لأن رائعته «إنت عمرى» هى التى تسببت فى لقاء «كوكب الشرق» بالموسيقار الكبير. والملحن الرائع «محمد الموجى» وهو أحد أبرز المجددين فى الموسيقى والغناء العربى بعد ثورة يوليو 1952، وله العديد من الأغنيات الرائعة التى تغنى بها كبار نجوم الغناء المصرى والعربى، أما الطرف الأول فى تلك المعركة فهو الكاتب الكبير الموهوب «جليل البندارى»، وهو كاتب موسوعى، أجاد فى كافة المواقع والفروع التى كتب فيها مثل: الصحافة والسياسة والسيناريو والأغانى واكتشاف النجوم وكتابة سير الفنانين الكبار، مثل عبدالوهاب وعبدالحليم، والطرف الآخر هو شاعرنا الكبير «مرسى جميل عزيز» والملقب بفارس الأغنية العربية، ورائد الأغنية الحديثة، وهو كاتب مجيد بالفصحى والعامية، وإنتاجه الغنائى أكثر من ألف أغنية، ويعتبر الشاعر العربى الوحيد الذى غنى من كلماته الخمسة الكبار فى القرن العشرين: أم كلثوم- محمد عبدالوهاب- عبدالحليم حافظ- فريد الأطرش- فيروز، ومن ثم يتكشف لنا أن الصراعات فى داخل المهن الواحدة موجودة دائما ومستترة غالباً، غير أنه أحيانا قد تستفز وتخرج عندما يتوهج نجم ما بأكثر مما قدره له المتنافس، أما عن السبب الذى جعل جريدة «أخبار اليوم» تفتح صفحاتها لمعركة كهذه.. الإجابة ببساطة من أجل جذب المزيد من القراء لعددها الأسبوعى وهو ما يطلق عليه «الترافيك» فى أيامنا هذه، وهذا جانب له إيجابياته وسلبياته كما هو معروف.
المصدر: كتاب «معارك فنية» للدكتور «نبيل حنفى محمود» إصدار «كتاب الهلال». وهو كتاب ممتاز يرصد عشر معارك فنية نشبت جراء اختلاف فكرى، أو حول بعض المكاسب والأهداف، فاحرصوا على اقتنائه.
اشترك الآن لتصلك أهم الأخبار لحظة بلحظة