ذهبتُ إلى المسرح القومىّ بميدان الأوبرا القديم بالقاهرة، لمشاهدة مسرحية «ماكبث». وفى غمرة نشوتى بالنصّ الدُّرّة، زلّتْ قدمُ ماكبث/ «عبد الله غيث»، وتعثّر! لم أميّز إن كانتِ العَثرةُ من سياق المشهد، أم هى زلّةُ فنان اندمج فى الأداء، فأغفلَ أن يقدّر لقدمِه قبل الخطو موضعَها! ورغم قراءتى مسرح شكسبير، حتى أكادَ أحفظُ حوارات شخوصه، إلا إننى ظننتُ أن عثرة ماكبث جزءٌ من المعالجة الدرامية للنص، بعد ترجمته وإخراجه عربيًّا. ولكى أقطعَ الشكَّ باليقين، ذهبت اليومَ التالى لمشاهدة العرض مجددًا، لأرى هل ستزلُّ القدمُ. ولم تزلّ. فتعلّمتُ أن الفنانَ الحقّ قادرٌ على تحويل الخطأ فنًّا، والزلِ اكتمالاً وجمالا. كان هذا قبل سنواتٍ طوال، على أننى ما زلت أذكر أنْ إلى هذا الحدّ استطاع ماكبث/غيث أن يستوعبَ السقطةَ لتغدو، للنظّارة، كأنما جزءٌ من سياق العرض! ويُحكى أن عبدالرحمن الأبنودى وعبدالحليم حافظ ومجموعة من أصدقائهما أدباءَ وفنانين كانوا يتندّرون على كلمات الأغانى السهلة التى غدت تُكتب اليومَ، (آنذاك). (لم يكونوا بعد قد عاصروا الركاكةَ والإسفاف الذى يصبُّه السوقةُ فى آذاننا، اليومَ (اليوم)! خلال سخرية الأبنودى - الشاعر الكبير- من سطحية ما يُكتب، قال: بوسع المرء كتابة عشر أغنيات فى الساعة بهذا المستوى! كأن نقولَ مثلا: مشيت على الأشواك/ وجيت لأحبابك/ لا عرفوا ايه ودّاك/ ولا عرفوا ايه جابك»! وما أن نطق الأبنودى بهذا المطلع، حتى أدرك عبدالحليم، بحسّه المثقف فنيًّا، إن المقطعَ يحملُ من الفنِّ، بقدر ما يحمل الأبنودى فى قلبه من مزاح. فما كان إلا أن أغلق البابَ على الأبنودى، طالبًا منه ألا يخرجَ إلا بعدما يُكمل الأغنية! فأكملها الشاعرُ، ثم أُوكِلَ بها إلى عظيم آخر، محمد الموجى، ليكتب موسيقاها، لتصيرَ إحدى أشهر أغنيات حليم! كذلك أحمد شوقى، أمير الشعراء، كان فى جِلسة مع مجموعة من الأدباء يناقشون المفردةَ الشعرية والمفردة غير الشعرية. وانتهى سَمرُهم بأن أجمعوا على أن كلماتٍ بعينها تستعصى على الشعر. كلمة قلقاس، مثلا! فابتسمَ شوقى قائلا: «يسألونكَ عن قلبي/ فَقُلْ قاسى!» وبالطبع، فالمفردتان: قُلْ+ قاسَى، تشكلان معًا، نطقًا، كلمة: «قُلقاسًا»، وبهذا كسب شوقى الرِّهان الصعب. ويتردد أنّ الشاعرَ أحمد رامى مرِضَ ودخل المستشفى. وفى أحد النهارات الجميلة زارته أم كلثوم، فابتسم وارتجلَ يقول: «رقِّ الحبيب/ وواعدني/ وكان له مدّة/ غايب عنى». فتلقّفتها أم كلثوم ولحّنها العظيم محمد القصبجى، فى أربع ساعات، لتغدو أكثرَ ما غنّت أم كلثوم فتنةً وإبداعًا! تلك أمثلةٌ قليلة على ذكاء المبدعين ووعيهم الرفيع بأن الفنَّ والذكاءَ صنوان لا ينفصمان. وأنْ ليس للفنّ قوالبُ ثابتةٌ، كما قال بريخت. وكثيرة هى مزاحاتُ المبدعين العِظام، وأخطاؤهم، تلك التى تحوّلت إلى قطع من الدُّرّ الحُرّ الفريد. وحدَه الفنّان الحقيقى قادرٌ على تحويل الهَزْل جِدًّا، والخطأ جمالا، والنقصِ اكتمالاً. وحده الفنانُ قادر على تحريك العالم بأسره بنقرة إصبع صغيرة. [email protected]