تهب رياح شديدة على مشيخة الأزهر، بعضها طيب وبعضها قد يكون خبيثاً، وتقع على فضيلة الإمام الأكبر ومجمع البحوث الإسلامية مواجهة تلك الرياح والتعامل معها، كانت البداية فكرة انتخاب شيخ الأزهر، وقدم د.أحمد الطيب ترحيبه وحرصه على أن يتم انتخاب الشيخ، وظهرت آراء مؤيدة وأخرى معارضة تماماً، وكلٌّ لديه حججه وأسبابه.. ثم وجدنا آراء تتجاوز هذه القضية لتطالب بأن يكون للأزهر استقلاله عن الدولة، وظهر رأى ثالث بأنه يجب أن يصبح الأزهر دولة مستقلة وذات سيادة، على غرار دولة الفاتيكان.. وأن يكون للأزهر سفراء ووزراء بالمعنى السياسى المباشر وأن يكون له عَلَم. والأزهر منذ تأسيسه قبل أكثر من ألف سنة كان مؤسسة من مؤسسات الدولة المصرية، ولم يكن مستقلاً عنها، وهو فى مقدمة مؤسسات الدولة المصرية التى يتجاوز دورها وتأثيرها حدود مصر، وهذا يقتضى أن يكون الأزهر على مسافة من الحكومة المصرية، وعلى مسافة كذلك من النظام السياسى المصرى، لا يصبح مناوئاً له ولا يكون كذلك أداة من أدوات عمل النظام اليومية، ولذا كان معيباً فى السنوات السابقة أن يهرع بعض الكبار من رجال الأزهر إلى مواكب بعض رموز الحزب الوطنى المنهار، وكان معيباً كذلك أن يشارك شيخ الأزهر الراحل فى حملات النظام السابق ضد عدد من الكتاب والصحفيين ورموز المعارضة، ومن الطبيعى أن تسعى الحكومات والأنظمة داخل مصر وخارجها إلى الأزهر لتنال مساندته ومباركته فى كل ما تقوم به، لكن يجب ألا يستجيب الأزهر، ومن الأفضل أن تكون الحكومات مدركة لطبيعة ودور الأزهر فلا تحرج رجاله ولا تضغط عليهم، وأظن أن الجميع الآن يدرك ذلك فى الحكم وفى الأزهر. والواقع أن فكرة انتخاب شيخ الأزهر سوف تصطدم بمطلب قديم لدى بعض رجال الأزهر وبعض التيارات المدنية وهو ألا يُعزل الإمام الأكبر من موقعه ولا يتركه إلا بالموت، فالانتخاب يكون لدورة أو لدورتين، وسوف تكون الدورة محددة، وتاريخياً لم يكن شيخ الأزهر يأتى بالانتخاب، لسبب بسيط أن فكرة الانتخاب عموماً لم تكن موجودة فى مصر، كما أن الشيخ لم يكن يُعيَّن بالطريقة التى عايشناها فى العقود الأخيرة، وإنما كان الشيخ تتم تسميته من الوالى باتفاق عام عليه بين كبار المشايخ، فضلاً عن المجاورين، وكانت هذه مسألة بالغة الصعوبة، وذات مرة فى القرن السابع عشر وقعت معركة بالسلاح داخل الأزهر بين أنصار اثنين من كبار العلماء حول أيهما يكون الشيخ، انتهت بسقوط قتلى وجرحى وأدت إلى إغلاق الأزهر فترة، وبسبب الخلافات بين كبار العلماء مضت فترة لم يكن للأزهر فيها شيخ، كما جاء وقت كان هناك أكثر من شيخ للأزهر، وكانت الصراعات المذهبية (الشافعية والأحناف) تتحكم فى كثير من هذه الخلافات، وفى العصر الحديث كانت هيئة كبار العلماء تختار ثلاثة من العلماء وتترك للملك أن يختار أحدهم شيخاً للأزهر، وحدث أن عين الملك فاروق مرة أحد العلماء خارج الثلاثة.. وطوال العصر العثمانى كان الشيخ لا يغادر موقعه إلا بالموت، أقصد أنه لم يكن يُعزل، وفى المرحلة الليبرالية من القرن العشرين كان يطلب من الشيخ أن يتقدم باستقالته للديوان الملكى إذا أراد الملك تغييره، وكان ذلك محكوماً بالعلاقات المعقدة بين الملك والمندوب السامى والحكومة. والآن نحن نمر بحالة ثورية، ومن الطبيعى أن تصل هذه الحالة إلى الأزهر، ولم يعد لائقاً أن يتم تعيين شيخ الأزهر بقرار فوقى من رئيس الجمهورية، ولكن يجب أن يتم انتخابه من بين أعضاء مجمع البحوث الإسلامية وأن يكون أزهرياً ومتخصصاً فى العلوم الإسلامية، لأن مجمع البحوث يضم بين أعضائه من ليسوا كذلك، وأن يكون له إنتاج ودور علمى وفقهى ثم يعتمد القرار من رئيس الجمهورية.. وإذا ارتضينا ذلك فيجب ألا يكون انتخاب الشيخ أبدياً، بل يتم طرح الأمر لإعادة الانتخاب بعد أربع أو خمس سنوات، أى نستبعد مقولة إن الإمام الأكبر لا يترك المشيخة إلا إلى القبر، وفى كل الأحوال يجب أن يعود الاستقرار والهدوء إلى مشيخة الأزهر لتقوم بدورها العلمى والفقهى، وذلك أننا فى أشد الأوقات احتياجاً لدور الأزهر.. أمامنا هجمة سلفية مخيفة، الوهابية المصرية تعيش أزهى أيامها، وأطلت علينا من جديد أفكار عبود الزمر وفريقه، ولابد لصوت الاعتدال والرصانة الفقهية والعلمية أن يكون حاضراً وقوياً، وأخشى أن يكون مقصوداً أخذ الأزهر بعيداً عن هذا الميدان إلى قضايا جانبية ليخلو الطريق أمام «الوهابية المصرية».