أول المبادئ التى تعلّمتها وأعلّمها لطلابى فى الجامعات هو «الفكر النقدى» الذى يقتضى وضع مسافة بيننا وبين أى متحدث أو كاتب أو محلل تجعلنا نرى ما نتفق معه وكذلك ما نختلف فيه فنرصد أوجه الاتفاق ونعلّق بنقدٍ بناء على أوجه الاختلاف. لكن أحيانا ما نتصادف مع فكر نتوافق معه تماما وباكتمال مما يجعلنا نتحير فى كيفية الحفاظ على هذه المسافة «النقدية». هنا قد تكمن صعوبة التعاطى مع آراء تكاد تتطابق كليا مع أفكارنا. شعرت بهذا الأمر حين استمعت إلى مداخلة المستشارة تهانى الجبالى، نائب رئيس المحكمة الدستورية، فى أولى جلسات «الحوار الوطنى»، التى عبرت فيها بشكل متطابق لأفكارى الفردية، كمواطنة أولا وكمحللة للوضع السياسى الإعلامى فى مصر ثانيا، وما يُثار فيه حول الحوار الوطنى، المجلس العسكرى، الدستور، سيادة القانون، وقضايا آنية أخرى. فكان وجود المستشارة الجبالى، وهى المتخصصة وصاحبة الخبرة فى الشأن الدستورى، من أهم الأوجه الإيجابية التى قد تبشّرنى بنجاح هذه الصيغة من الحوار الوطنى. فمثلا استحسنت كثيراً بداية الجبالى بلفت النظر إلى «تأخُر» انعقاد هذا «الحوار الوطنى»، الذى كان يجب أن يأتى فى بداية المرحلة الانتقالية مباشرة ليكون هناك صدى لتعددية أصوات المصريين لدى «السلطة الفعلية» التى تدير البلاد فى المرحلة الخطيرة الحالية. فرأى البعض أن «غياب» مثل هذه الأصوات قد تكون له انعكاساته السلبية فى قرارات المجلس العسكرى من تشكيل لجنة تعديلات دستور 1971، والاستفتاء على مواد تحمل أرقاما فى دستور 1971، ثم ما تبع هذا من التباسات أخرى حول «إعلان دستورى انتقالى جديد» يتكون من عدد كبير من المواد وهو 62 مادة مازالت تعتمد مبدئياً على دستور 1971 بدلاً من أن يكون مقتضبا من عدة مواد أساسية تنظم الوضع الانتقالى فى علاقة المجلس العسكرى بالمجتمع. كل هذه الخطوات كان من الممكن تداركها لو أن النداءات المطالبة بإقامة «جمعية تأسيسية» مشابهة لهذا الحوار الوطنى وعاكسة لتنوع المجتمع المصرى قد عُمل بها رسميا ليوكَل إليها وضع دستور مصر فى اللحظة الفاصلة ما بعد قيام «ثورة» شعبية. ولذلك بحديثها عن آلية الحوار الوطنى تمنت المستشارة، ونتمنى معها، أن يتحول «الحوار» إلى «مجلس وطنى للحوار» يستمر خلال المرحلة الانتقالية، لأنه قد يمثل «الفرصة الوحيدة للوصول لتوافق» حول قضايا وطنية عديدة. بل نأمل مع الجبالى أن يُفعّل دور هذا المجلس التوافقى بدرجة تمكنه من اتخاذ قرارات يتواصل بها مع دوائر الفعل الرسمى كى تتم «أى نقلة» تالية على أساس توافق وطنى منظم وليس بشكل أحادى التوجه. النقطة التالية التى أشارت إليها «الجبالى» هى «كيفية بناء آلية وطنية لضمان الإشراف الفعلى الدقيق على الانتخابات»، وهو أمر يؤرق الكثيرين. وبالتالى أكدت «الجبالى» ضرورة بناء آلية وفقا لمعايير علمية دولية، بُنيت بها آليات إشراف انتخابى فى كل الدول التى شهدت مراحل انتقالية بحجم المرحلة التى نعيشها فى مصر، ومن ثم اقترحت دعوة الأممالمتحدة للمشاركة فى بناء هذه الآلية من خلال برنامج «العدالة الانتقالية» ليمدنا هذا البرنامج بخبرة دولية فى بناء آلية منظمة تشعرنا بأننا فعلا «نبدأ مرحلة جديدة من الفعل السياسى فى إطار مقبول منا جميعا، ليس فيه أى شكل من أشكال العشوائية أو القلق من غياب الآلية». وبخصوص قضايا أخرى غاية فى الأهمية، عبرت «الجبالى» عن مخاوف الكثيرين من «غياب سلطة القانون فى مواجهة كوارث تتعلق بالبيئة السياسية والثقافية المصرية»، مطالبة بمناقشة «الحال الآنى فى مصر فى إطار إعمال سلطة القانون». فى الأخير، هناك ضرورة قصوى لأن يكون أعضاء هذا المجلس قد اختيروا بشكل يُشعر كل مصرى ومصرية بأنهم مُمثّلون وأن هناك من يعبر عن أفكارهم. ومع تنوع وتعدد أطياف المجتمع من أفراد تمثل تيارات فكرية، وهويات أيديولوجية دينية أو غير ذلك، وكذلك تقسيمات جغرافية من ريف لحضر ومن أماكن ظلت «نائية» فى مخيلة المصريين لفترات طالت عما يجب، فإن انعكاس هذه الأمور فى تكوين المشاركين فى «مجلس الحوار الوطنى» ضرورة إن رُعيت قد تنبئ ببدايات جيدة جدا لمصر «جديدة» ترى نفسها من خلال «تعددية» تتوافق ولا تتنافر. وبذلك يبدأ المصريون فى تكوين صورة جديدة لأنفسهم تعتمد على فكرة «التنوع» الإيجابى الصالح وليس على فكرة «التقسيم» المخيف المرعب، الذى يهدد وحدة الوطن والمواطنين. فربما إذن الدعوة الآن هى إلى التعاطى الإيجابى مع فكرة «التنوع» Diversity وتصحيح المفاهيم المتعلقة بهذه الفكرة، كى تكون «وحدتنا فى تعدديتنا» وليس فيها ضعفنا أو تفككنا. إذن أنا كفرد أشعر باطمئنان لوجود من يُمثّل أفكارى وتوجهى فى هذا المجلس ومن ينوب عنى هناك، مما يعمق أملى فيما قد ينجح فيه هذا المجلس. فهل ترى أنت أيضا من يُمثّلك فى هذا «الحوار الوطنى»؟ لعله كذلك. * زميل مركز دراسات الشرق الأوسط، جامعة واشنطن بسياتل، الولاياتالمتحدةالأمريكية [email protected]