بينما انتخبت الولاياتالمتحدة أول رئيس ملون، كان والده مهاجراً أفريقياً مسلماً، ما زالت ألمانيا فى مرحلة انتخاب وزراء إقليميين من أصول غير ألمانية، مثل إيجول أوتسكان، وزيرة الشؤون الاجتماعية فى ولاية ساكسونيا السفلى، التى أثارت مؤخرا زوبعة عندما طالبت برفع الصلبان عن جدران المدارس الحكومية. قوبل هذا الطلب بالرفض الغاضب من قادة حزبها نفسه، الذى تقوده المستشارة إنجيلا ميركل. ذلك رغم أن المحكمة الدستورية العليا كانت قد قررت أن وضع الصلبان فى المدارس الحكومية غير قانوني.. ولم يطبق قرارها. فى الواقع فإنه ليس فقط فى الولاياتالمتحدة، بل أيضاً - وبطريقة أكثر صرامة – فى فرنسا، قد يبدو مثل هذا الطلب طبيعيا، فهذه الدول تطبق مبدأ للمواطنة ومفهوما لمعنى القومية مبنياً على عقد اجتماعى يفصل الدين عن الدولة وعن الهوية القومية التاريخية؛ ففيها يكون الدستور والقانون ومبادئ تنظيم الحياة هى الأشياء التى تحدد هوية الدولة القومية، وليس العكس.. وهذا الوضع يعكس المفهوم الليبرالى الذى نبع عن الثورتين الأمريكية والفرنسية، اللتين نتجت عنهما أنظمة متأثرة بالفكر العلمى الذى نشأ مع بداية العصر الحديث فى القرن السابع عشر وتأثر به مفكرون وفلاسفة وسياسيون مثل جون لوك، وأيضاً عصر التنوير الذى تلاه بعمالقته من المفكرين، مثل فولتير وديدرو ومونتسكيو. أما تاريخ ألمانيا فقد اتبع مساراً مختلفاً، فرغم أن إيمانويل كانط يمكن اعتباره آخر وأعظم فلاسفة عصر التنوير، فتأثيره المباشر على الفكر السياسى الألمانى كاد يكون منعدماً، أما الذى أثر فعلاً على هذا الفكر فهو اعتبارات فلاسفة قوميين مثل «فيخت»، الذى نبذ النزعة الكونية المسيطرة على فكر عصر التنوير، وبدلها- «الخصوصية الألمانية» - فالأمة الألمانية فى نظره شكلت شيئا أسطوريا أزليا، تبلور فى الماضى الضبابى البعيد للقبائل الألمانية وتأثر بطبيعة اليابس والغابة والجبل الألمانى، وظل فى «ذاكرة الأمة» عبر القرون.. وفى هذا السياق فان الألمانى الحقيقى ليس هو الفرد التى تربطه بالدولة علاقات المواطنة والعقد الاجتماعى الذى يحدد الحقوق والواجبات، إنما هو الشخص الذى شرب التاريخ الأسطورى لهوية الشعب الألمانى الجماعية المتراكمة عبر العصور. لا شك أن هذا النوع من التفكير يفرض قدراً كبيراً من حتمية التجانس الاجتماعى، لأنه يرفض من حيث المبدأ فكرة التعددية الثقافية داخل الدولة القومية، وأيضاً إلى حد كبير التعددية العرقية، لأنه يعتبر (حتى إذا كان خاليا من العنصرية الصريحة) أن هوية الأمة وتاريخها هما اللذان يحددان هوية الفرد، فإذا كان هذا الفرد ينتمى ل«أمة» أخرى، مثل المهاجر الذى جاء من بلد آخر يختلف ثقافيا عن البلد المضيف، فلا يمكن أن يندمج بشكل كامل مع المجتمع الذى تسوده تلك النظرة القومية. بل يصعب حتى على أولاده وأحفاده الانتماء، لأن هذا الانتماء يتبلور عبر الأجيال المتتالية التى يرجع أصلها للماضى البعيد. فى هذا السياق تظهر الصراعات الحالية، التى تنشب من حين لآخر داخل المجتمعات الأوروبية. فأزمة الصلبان تلك تعكس صراعا بين تشريعات الدولة الألمانية الحالية، التى تم سنها فى أعقاب أهوال الحروب المتتالية التى نتجت عن الفكر القومى القبائلى الذى طالما سيطر على التاريخ الألمانى الحديث- التشريعات التى تمثلها المحكمة الدستورية العليا- ورواسب هذا الفكر التى ظلت مسيطرة، رغم أهوال التاريخ، على قطاعات مهمة فى ألمانيا.. وفى كثير من الأحيان تلتبس بهذه الصراعات النزعات الدينية، لأن فى النظرة القومية القبائلية يشكل الدين عاملاً مهماً لهوية الأمة وتراثها التاريخى، حتى إذا جاء ذلك فى إطار علمانى. وفى القرن العشرين تم تصدير هذا التراث الفكرى لمنطقتنا.. أولا عن طريق دولة إسرائيل، التى نتجت عن فقدان اليهود الأوروبيين الأمل بأن يكون لهم مكان مناسب وسط مجتمعات سيطرت عليها النزعات القومية، والتى رفضت قبولهم بشكل كامل، الوضع الذى نتجب عنه فكرة القومية اليهودية، التى استوردت الكثير من مفردات القومية القبائلية السائدة فى وسط وشرق أوروبا خلال فترة نشأة الحركة الصهيونية وتطورها.. وثانيا، من خلال أفكار قومية شبيهة نشأت فى العالم العربى، اتسمت هى الأخرى بالقبائلية التى رفضت الاختلاف- فكما أشار بسام طيبى (الأستاذ بجامعة جوتنجن الألمانية)، فى كتابه عن القومية العربية، فإن الكثير من منظرى هذه القومية تأثروا أيضاً، وبطريقة مباشرة، بالفكر القومى القبائلى الألماني. أدى الصراع بين هاتين الحركتين القوميتين إلى محاولة كل منهما فرض التجانس فى المناطق التى سيطرا عليا؛ فتم تهجير الفلسطينيين وأيضاً الكثير من الجاليات والأقليات الثقافية والدينية فى العالم العربي. ثم بدأ الصراع يأخذ، منذ عدة عقود، شكلاً دينياً صريحاً. لذلك يبدو أن حل هذا الصراع، على المدى الطويل، لن يأتى إلا إذا تخلص الجانبان من هذا التراث القومى المدمر، واستبدلاه بفكر عصر التنوير الليبرالى، الذى يسمو بمكانة الفرد واستقلاله على القبيلة القومية أو الدينية.. أى أن الحل الأمثل لمشاكل الشرق الأوسط يتجسد فى استبدال القومية القبائلية بالدولة التعددية، العلمانية الديمقراطية، ليس فقط فى فلسطين/إسرائيل، إنما فى الدول المجاورة أيضاً.