2- في برج الإسكندرية : الحب ساحر يصنع المعجزات برج الأسكندرية سجن للأمراء ومعتقل للسلاطين الذين أسقطوا من على كرسى السلطنة في لعبة الكراسي الموسيقية السلطانية، ومحبس لأولاد السلاطين السابقين والذين غدر بهم أوصياؤهم فبدلاً من أن يجلسوهم على كرسي السلطنة جلسوا هم وأرسلوهم إلى برج الاسكندرية القائم على الشاطئ في منطقة منعزلة أمامه البحر وتحيط به الصحراء من باقي الجوانب .ومثل كل السجون كانت حياة السجناء في زنازين، ولكن الزنزانة كانت تختلف باختلاف مكانة الأمير أو السلطان ومدى خطورته ومبلغ غضب السلطان القائم بالأمر عليه. فكانت رفاهيةالسجين تتفاوت تبعاً لذلك . وكان هناك سجناء يعيشون مع زوجاتهم وعيالهم ، وسجناء دخلوا أطفالاً وحملتهم موجات السنين إلى مشارف أرذل العمر، وسجناء كانوا سلاطين وضاع منهم كرسي السلطنة وضاع معه العقل أيضاً فكانوا يعيشون في الماضي المفقود، وقد وجدوا في الجنون راحة، فكانت هلوستهم مصدر تسلية للسجناء والحراس، ولكن إذا تجاوزت الحد أو لم ترق لحارس نكد المزاج فكانت صفعة على قفا جناب السلطان ( السابق ) أو ضربه عصا على مؤخرته السمينة كفيله بأن ترد جنابه إلى حظيرة التعقل وليس العقل. لم تكن الحياة قاسية في برج الاسكندرية، وكان عرفاً مرعياً من كل السلاطين أن الطعام الذي يقدم لنزلاء البرج لابد أن يكون بكميات كافية، ومن أفخر الأصناف وأشهى الألوان إلى جانب الفاكهة وكان النبيذ الجيد يقدم لمن يشربون الخمر، والحشيش لمن يأكلونه أو يدخنونه وغيره من المصطلات والمعاجين والمفرحات، وكانت وسائل التسلية متاحة من شطرنج ونرد، وما يلزم لخيال الظل الذي أغرم به عدد من السلاطين والأمراء نزلاء البرج، فكانوا يقدمون بابات ( تمثيليات ) خيال الظل من آن لآخر، وقد برعوا في هذا الفن كأربابه من المخايلين المحترفين. كذلك توفرت الكتب لمن يريد أن يقرأ، ولكن كتب السحر كانت محظورة خشية استخدامها في الهرب أو العودة إلى السلطة .كان مقدم برج الاسكندرية في استقبال " يشبك " وأدخله إلى زنزانته التي كانت كبيرة فاخرة الأثاث ملحق بها حمام خاص وبها نافذة تطل على البحر كان عليها قضبان حديدية غليظة، وكان في صحبة الأمير مقدم البرج معاونوه من الحراس وحداد فك قيود الأمير يشبك وتقدم منه متردداً ليضع في رجله اليمنى قيدا يتكون من سلسلة في نهايتها كرة من الحديد تزن عشرة أرطال، ووجه مقدم البرج الحديث إلى "يشبك " " اعذرنا يا أمير نحن ننفذ الأوامر " رد " يشبك " بهدوء " لا عليك ، ياحداد اعمل شغلك " لقد اعتذر مقدم البرج للأمير " يشبك " فمن يدرى ربما عفا عنه السلطان وغادر البرج وعاد إلى السلطة فسيذكر له رقته في معاملته .ومضت الأيام بالأمير " يشبك " في برج الاسكندرية، ولم يكن يشكو أو يتبرم ، وزاره عدد من نزلاء البرج، وتجاذب معهم أطراف الحديث وهم يدخنون النارجيلة التي مزج تبغها بالحشيش دون أن يخوض أي منهم في حديث السلطة أو لماذا جاء إلى البرج ... فكلهم في الهوى قيس .وبعد أسبوعين من مقام الأمير " يشبك " في برج الاسكندرية ، وذات صباح مشمس من أيام ديسمبر دخل مقدم البرج ليزف إلى يشبك بشرى سارة، لقد تعطف جناب السلطان فسمح لجارية يشبك الأثيرة بأن تزور مولاها ولها أن تقيم معه إن شاءت. وللمرة الأولى منذ جاءوا به إلى البرج أحس بالفرحة تدغدغ قلبه الذي يشعر به يدق في صدره وكأنه كان فى نومة وأفاق على النبأ السار. شكر " يشبك " مقدم البرج ودعا للسلطان، تركه مقدم البرج متعللاً بكثرة المشاغل على أن يعود له ومعه الجارية بمجرد وصولها .. عاد يشبك إلى مجلسه المفضل أمام النافذة يدخن نارجيلته ويتطلع إلى البحر الذي لا تمل أمواجه من القدوم إلى الشاطئ لتتكسر على صخوره وتتطاير أشلاؤها رذاذاً في الهواء، وردد " يشبك " في نفسه " : والله يشكر .. لم تهن عليه صداقة الصغر ولازمالة الكبر " لم يكن حانقاً على السلطان، فهو يعرف أصول اللعبة التي كان يلعبها والغدر واحد من أصولها، ولا بأس أن تتغدى بخصمك ومنافسك أو من يحتمل أن يكون خصمك ومنافسك قبل أن يتعشى هو بك، ومن يدري ماذا يخبئ له الغد .. فربما وألف ربما .. وحملته موجة من موجات خدر الحشيش إلى جزيرة بعيدة في بحر هادئ، ووقف عند الشاطئ يرقب " ياسمينة " جاريته وحبيبته تسبح عارية تماماً، وحار نظره عندما خرجت على أي من جواهر جسدها يقع أولاً.. وجلسا تحت شجرة تفاح وصوت قبلاتهما وضحكاتهما يتناغم مع تغريد الطيور وموج البحر... وانحسرت الموجة تاركة له على نفس كرسيه أمام النافذة وأحس برودة حلقه القيد حول ساقه ومن خلف قضبان النافذة رأى سرباً من السمان يطير في انتظام وانسجام خلف قائد السرب.. فشد أنفاسا سريعة من نارجيلته وملأ بها صدره ثم أخذ ينفثها في اتجاه النافذه واستخفه الطرب كلما رأى نفثات الدخان تخرج من فرجات النافذة دون أن تعبأ بالقضبان وضحك مسروراً، وأحس أن اليوم لابد وأن يكون واحداً من أيام سعده .جاءت " ياسمينة " قبل مغيب الشمس بقليل، وتعانق الحبيبان وأطفأ برد اللقاء لهيب الفراق، وأخذت عيون الليل ترمقهما بحنو، والقمر يضحك نشواناً و ... و .... .