الخال ودرويش

عشق «الخال» عبدالرحمن الأبنودي «حبيبته فلسطين» كما عشق الوطن الأم مصر، عشق الشاعر عبدالرحمن الأبنودي القدس، وربط بين آلامها وآلام المسيح، فكتب قصيدته الشهيرة «المسيح».. «على أرضها طبع المسيح قدم، على أرضها نزف المسيح ألم، في القدس في طريق الآلام، وفى الخليل رنت تراتيل الكنايس، وفي الخلا صبح الوجود إنجيل».
أجاد حرفة الصحبة، فكان الصديق الصدوق لرفيق الدرب الشاعر «محمود درويش»، درويش الذي لا يجيد التعبير عن المشاعر الحية، لأن الخجل عائق قدري يفصل بين مشاعره والتعبير المباشر عنها، قال للأبنودي في آخر مقابلة جمعت بينهما: «يا عبدالرحمن اعلم أنني غير مغدق في الحب وعواطفي قليلة، لكن لتعلم جيدا أنني أحبك بشكل خاص».
كانت علاقة الخال بالشعراء الفلسطينيين قوية، وكانت قصيدة «لاعب النرد» لمحمود درويش الأبنودي وراءها وهو المقصود بها كما أكد العديد من أصدقاء درويش، تماما كما كان الأبنودي دائما يعطر أشعاره بحب فلسطين والتغني بها، كان صاحب «حبيبتي فلسطين» يردد دائما «فلسطين تعيش في ضمائرنا»، ولم يكن مستغربا أن يترك استشهاد رسام الكاريكاتير الفلسطيني «ناجي العلي» أثرا كبيرا عليه فيرثيه بقصيدة مؤثرة قال فيها:
«يمّا في عدّودة عدّودة من أقدم خيوط سودا في توب الحزن لا تولولي فيها، ولا تهللي وحطّي فيها اسم واحد مات كان صاحبي يمّا... واسمه ناجي العلي».
في عام 2014 منحت جائزة محمود درويش للإبداع للشاعر عبدالرحمن الأبنودي، حينها قال رئيس مؤسسة محمود درويش ياسر عبدربه إن الأبنودي الذي استحق الجائزة الأولى هذا العام، كرس روح الأصالة المصرية بدفاعه عن حق المصريين وطموحهم نحو مستقبل حر وديمقراطي، وحول شعره إلى أغان وهتافات ترددها الأجيال، كما حمل راية فلسطين وجعل فلسطين مصرية كما مصر عنده فلسطينية.
رد الأبنودي في كلمة مسجلة تعقيبا على منحه الجائزة قائلا: «أستحق هذه الجائزة لأنني أستحق محمود درويش ولأننا كنا شيئا واحدا»، واعتبر حصوله على الجائزة اعترافا بدوام صداقتهما إلى الأبد.
وتحدث الأبنودي عن ذكريات استضافته لدرويش كلما نزل مصر، مستذكرا لقاءهما الأخير في عمان عام 2008، قبيل سفر درويش إلى الولايات المتحدة لإجراء عملية قلب مفتوح والتي توفي على إثرها.
يقول الأبنودي: إن درويش لامه على قصيدته التي كتبها باسم عمته «يامنة»، «قلتله ليه يا محمود؟ قال أفسدت على قصيدة كنت أكتبها لأستبدل بها قصيدتي القديمة (أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي)، فبعد قصيدتك لا يكتب أحد».. يقول الأبنودي: «لم أر حبا يحمل صاحبه إلى قمة العطاء واكتشاف الشعر وملامسته باليد إلا من خلال حب درويش لفلسطين»!!
يشعر المرء من خلال سيرتهما وتاريخهما الحافل بالعطاء والثراء الأدبي أنهما رضعا حب الوطن بجنون، لكن كل بطريقته، فقد عبر محمود درويش عن هموم الوطن بأروع القصائد وأكثرها تجليا وحماسة وقدرة على اختراق الذات، فيما تغنى بأشعار الأبنودى قمم الفن.. ولعل الأغنية الخالدة لعبدالحليم حافظ ومن أشعار الأبنودى «عدى النهار والمغربية جاية تتخفى ورا ضهر الشجر..» خير دليل على ذلك، هي قصيدة من روائع الأبنودي وأجمل ما كتب في حب الوطن والتعبير عنه.
الأبنودى ودرويش مترادفان لحالة عشق فريدة، حينما يكون الحب خالصا لمعنى وقيمة تتجسد في هموم الوطن، حالة روحانية خلاقة من الإبداع ربما لن تتكرر، هذا الثراء اللغوي العميق الذي يخترق شغاف القلب، ويؤجج المشاعر الوطنية فتصهرها في بوتقة التضحية والإيثار، هما خير من عبر عن هموم الوطن، وأكثر من تألم من الهزيمة، جمعتهما صداقة الهم والمصير الواحد، وألفت بين قلبيهما بيوت الشعر والإبداع، فشكلا حالة وجدانية كلماتها تكتمل بحروف اسميهما «الخال» و«محمود درويش»، رحم الله هذين المبدعين وكان الله في عون الوطن من بعدهما.