سقط النظام وتبدلت القوى فأعز الله من يشاء وأذل من يشاء وتعلقت القلوب بمستقبل قريب أو بعيد يبدو على أقل تقدير أفضل مما كان عليه الحال ثم بدأت الحياة تتأرجح يوماً بعد يوم فتعلو أصوات التفاؤل ثم تخبو وتتلاشى خلف أصوات اليأس والإحباط وصار الحلم وكأنه خيال أو سراب كما يبدو للبعض أو ربما حقيقة وشيكة كما يراه آخرون. ولكن ...... كيف أصبحت وأمسيت؟ سعيداً أم حزيناً؟ متفائلاً أم متشائماً؟ هل تساورك الشكوك؟ أم تملؤك الثقة؟ هل ذهب بك الخيال بعيداً فرأيت النور بعد ظلمة السنين؟ أم وقفت باكياً على مشهد الإرث الضائع والذئاب الملهوفة فتملّك اليأس من عقلك واستشرى الوهن في قلبك؟ هل تمنيت ولو للحظة أن يرجع بك الزمن للوراء فكأن شيئاً لم يكن؟ ...... دعني أصارحك بالحقيقة: أنا كل هؤلاء معاً. لقد كانت الثورة ومازالت تجربة عنيفة وشديدة التأثير على كل طوائف الشعب افترقت عندها الانفعالات بشكل حاد واهتزت فيها مشاعر الجميع معبرةً عن تركيبة معقدة للنفس البشرية تمتزج فيها الرغبة في الحرية بالخوف من المجهول، تعلو فيها أصوات التجديد والحداثة مع أصوات الاستقرار والتأني. ولعل الاختلاف يثري جوهر القضية في كثير من الأحيان ولكنه كما يفجر طاقات الإبداع والعصف الذهني فإنه يثير رغبات مكبوتة في النفوس كالشماتة والانتقام والتخوين وإشاعة الفتن والسب والقذف والنزاع الفكري وديكتاتورية الرأي وتهميش الآخرين وغير ذلك من رذائل النفس وذلاتها. وهنا يأتي السؤال أين هو التغيير؟ لست معنياً الآن بتغيير النظام أو تغيير الدستور. ولا بالوزارة أو البرلمان. وإنما أتحدث عن تغيير خصائص النفوس. تغيير يعصف بالقيم السلبية ويأتي بأنبل القيم فتصفو النفوس وتهدأ نيرانها. إن الجسد المريض إذا ما استؤصلت علته وأفاق قليلا من تأثير المخدر بدأ يهذو فراح يسب ويلعن ويبوح بالأسرار فيفضح نفسه أو ربما يفضح غيره فإن أفاق أكثر .. تألم أكثر وندم على ما فعل إلى أن يتم الشفاء الذي قدر له. أما آن لأجسادنا أن تشفى ولنفوسنا أن تفيق. إن علة النفس لأشد من علة النظام الذي سقط. قال تعالى "إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي" ولكي تسمو بنفسك عن آفاتها ورذائلها عليك بتدريبها وتقويمها ومجاهدة طيشها وانفلاتها. وجدت نفسي أقرأ صفحات في إحدى الموسوعات عبر مشهد من التاريخ وإليكم جزء مما قرأت: "دخل رسول الله مكة من أعلاها وهو يقرأ من القرآن : ((إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً)). فهرع الناس إلى دورهم وإلى المسجد. وأغلقوا الأبواب عليهم وهم ينظرون من شقوقها وثقوبها إلى جيش المسلمين، وقد دخل متواضعاً وقد تكاد لحيته تمس الدابة التي كان يركبها. ودخل جيش المسلمين مكة في صباح يوم الجمعة الموافق عشرة من رمضان من السنة الثامنة للهجرة. بعد الطواف بالكعبة أمر بتحطيم الأصنام المصفوفة حولها وكان عددها ثلاثمائة وستون صنماً مثبتة بالرصاص، فجعل يطعنها ويقول: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً. بعدها صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالكعبة ثم خرج وقريش صفوفاً ينتظرون ما يصنع، فقال : (يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم ؟) قالوا : أخ كريم وابن أخ كريم، قال : (فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوانه : {لا تثريب عليكم اليوم } اذهبوا فأنتم الطلقاء). أمن النبي يوم فتح مكة كل من دخل المسجد أو أغلق عليه بابه، إلا أربعة أمر بقتلهم ولو وجدوا متعلقين بأستار الكعبة، اثنين منهم قتلا واثنين عفا عنهما: عكرمة بن أبي جهل الذي أمنه الرسول بعد إسلام زوجته ام حكيم وتشفعها له. وصار له دور كبير في قتال المرتدين، وله موقف مشهور في معركة اليرموك قبل أن يستشهد. عبد الله بن خطل، أُدرك وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد ابن حريث وعمار بن ياسر، فسبق سعيدٌ عماراً وكان أشب الرجلين فقتله. مقيس بن صبابة، أدركه الناس في السوق فقتلوه. عبد الله بن سعد بن أبي السرح. وقد لجأ إلى عثمان بن عفان، أخيه بالرضاعة، الذي تشفع له لدى النبي وعفا عنه النبي، ويقال أن النبي عفا عنه ممتعضاً، وصار عبد الله بن سعد بن أبي السرح بعدها والياً على الصعيد السوداني من قبل عمر بن الخطاب، وبعدها ولاه عثمان على مصر، وهو صاحب معركة ذات الصواري المشهورة ضد الروم". وجدتني أتعجب من هذه الحادثة التي تضرب لنا أروع الأمثال في رقي النفس وسمو أخلاقها وكأن الدرس للجميع ممن شهد الفتح أو ربما أيضاً ممن شهد الثورة المصرية. اسمحولي أردد بعض المقاطع مثل: دخل متواضعاً ... أمر بتحطيم الأصنام ... جاء الحق وزهق الباطل ... اذهبوا فأنتم الطلقاء ... أمن الناس إلا أربعة أمر بقتلهم ثم عفا عن اثنين. ودعوني الآن أحيا وأحتفي بجمال النفس النبوية: التواضع عند الانتصار فلا شماتة ولا انتقاص للآخرين، إصلاح مظاهر الفساد وإزالة أسباب الباطل، إحقاق الحق وتمكينه لتوضيح الرؤية ودرء الفتنة، العفو عند المقدرة ونبذ فكرة الانتقام وإتاحة الفرصة للتوبة والصلاح، القصاص ممن اشتد فسادهم وطغيانهم وهم قليل ومازال العفو سائداًحتى إن أعداء الأمس صاروا بعد ذلك أولياء الغد وربما أبطاله. فيا كل صاحب فكرة أو كلمة أو موقف في ثورة المصريين أستحلفكم بالله هذه هي أخلاق النبي: نعم للتواضع لا للشماتة لاللفتن لا للتخوين لا للانتقام لا لتهميش واستعداء الآخرين. ويا أصحاب السلطة والقائمين على النظام هذه هي أخلاق النبي: لا للتباطؤ نعم لإزالة رموز الفساد نعم لتمكين الحق نعم للقصاص العادل السريع. وأخيراً فإن فساد الأخلاق والصفات متفاوت الدرجات وكلٌ منا به علة أو أكثر لأننا لسنا أنبياء ولسنا معصومين من الخطأ، إذا تحاكمنا بالحق فكلنا قد نكون متهمين ولكن إذا اكتفينا بمحاكمة رؤوس الفساد وفتحنا جميعاً صفحة جديدة بيضاء لا تكشف من ورائها سوءاً فكلنا عندئذٍ أخوة متحابون متعاونون، تقلّنا سفينة واحدة تتحرك للأمام ولا تعرف اتجاهاً آخراً: فقراء، أغنياء، جيش، شرطة، مثقفون، أميون، مؤيدون، معارضون ... كلنا ضحية نظام سابق أدى بنا إلى ما صرنا إليه وانسقنا وراءه بدرجات متفاوتة لكن لا يكلف الله نفسا إلى وسعها. هل عرفتم الكنز المفقود في هذه الثورة العظيمة؟ ... إنه العفو. نعم إنه العفو ... ابحث عنه في نفسك فستجده خلف الأفكار السوداء، اغتنم الفرصة الآن فلن تنتظرك طويلاً لعل اليوم تدرك النصر في العفو قبل أن يأتي الغد بالانتقام فتكون الهزيمة. وتذكر أن العفو قوة وأن العفو لا يعني السكوت عن الفساد. بل إن العفو مقترن بمحاسبة الطغاة ورموز الإفساد فالمفسد أعتى ظلماً من الفاسد، والقصاص العادل العاجل من الطغاة والمفسدين -وهم ليسوا بكثير- قد يريح النفوس ويطفئ لهيبها فيدفعها دفعاً جميلاً نحو العفو والتصافح. قال الله عز وجل: "فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير" صدق الله العظيم.