على نحو مباغت مرت فى حلم لم يكن يخصها، لا أدرى سبب مرورها على هذا النحو، حتى الحلم - فى الصباح- كانت تفاصيله قد تساقطت، ولم يبق منه سوى مرورها المباغت؛ حاولت بكل طاقتى تذكر بعض التفاصيل التى قد تخبرنى عن سبب مرورها بحلم - على الأقل- لا يخصها، لكن ذاكرة الأحلام اللعوب لم تسعفنى بشىء. أحاذر عند الاستيقاظ من التحرك مباشرة، أبقى لفترة خاملا وكسولا محاولا استرجاع ما جرى فى ليلتى من أحلام، علها تنير لى بعضا من متاهات ومتاعب روحى، وكم يكون بهيجا عندى أن مرت الليلة بسلام دون أحلام؛ فى ذلك الصباح لم يكن متبقيا من الحلم سوى مرورها الخاطف، مما أربك روحى وجعلنى متوترا بعض الشىء، ولما ذهبت للعمل ورأيتها اقتربت منها متعللا بأشياء كثيرة، فقط لأهمس ملقيا العبء عن روحى: ابتعدى عن أحلامى. ربما تفاجأت من قولى، ومن صوتى شديد الارتباك، لكن بسمة عينيها البهيتين قالتا: لا. فتحركت مبتعدا وأنا أرى نفس العينين، بنفس الضحكة - فى الحلم - قد ارتسمتا أمامى بكل قوة ووضوح. ربما كنت أسير وحيدا وضائعا، تائها فى صحراء، أو غابة، أو جزيرة يغرقها البحر بموجه، لا أتذكر إن كنت خائفا أم لا، فقط إحساسى بالوحدة والضياع والعجز، فى قلب هذا الإحساس رفت عينها ببسمتها فى سماء حلمى، فانتبهت من نومى مكروبا ومرددا: مالها ومال أحلامى؛ وحين وجدتها فى الصباح أمامى، همست: ابتعدى. ■ ■ ■ تمتعت لليالٍ طويلة بالنظر إلى السقف مبتهلا ألا تغشانى الأحلام، وكنت قد نسيت الحلم القديم أو تناسيته؛ كانت ليالى صافية بلا أحلام، فقط الضجر والكآبة يمرحان فى سماء روحى، لكن ذلك لم يدم، فبينما كنت عائدا من سفر طويل مجهد، أحن بعده للحظة أفرد جسدى فيها على سرير وحدتى، غافيا ومستمتعا ببعد العالم عنى، وبعدى عن العالم، قبل النوم كانت تناوشنى بعض الخواطر، فرحت أرددها جالبا لعينى الوسن المشتهى: لم تكن سوى ظلال لاتفضى إلى شىء فقط إلى ظلام. ■ ■ ■ ربما يشف الحلم عن معنى أو إلى متاهة فما بال أحلامى مشوشة بالحزن. ■ ■ ■ أريد لها أن تمضى هكذا بلا كدر كنسمة لم يبللها المطر. ■ ■ ■ ما بال الحياة ثقيلة بلا وزن ........... لم أكمل الخاطرة الأخيرة، أو ربما أكملتها، لأن ملاك النوم كان قد طار بى فى أرض أحلامى، وكان نبع وجدول وزهور وأشجار صغيرة تنفث عبيرها فى الجو، وكان غناء عذب يتحدر من غيمة تقترب لتحط على النبع، والغناء الساحر ينسكب داخل روحى، يغسلها ويطهرها من قلقها، صوت طفولى لعوب، يهاجم مسام روحى جميعا، فأتلفت بحثا عنه، لأراها تنبت من قلب الغيمة، واقفة بجوار النبع، لاهية تغنى، غير منتبهة لوجودى الضائع فى البهاء الذى ينبعث منها ويحيط بها، أكانت تداعب فراشة، أم تطير وردا فى سماء الحلم ليغنى من حولى كجوقة يردد خلفها، لم أعد قادرا على البقاء مكانى، وحين حاولت التقدم نحوها، رفعت عينها محذرة: إن اقتربت احترقت. وكأنما صوتها يقطر غواية يدفعنى نحوها، وقبل أن أنقل قدمى ردنى ملاك النوم لسرير وحدتى أحاور الخاطرة الأخيرة التى ما أكملتها. ■ ■ ■ فى اليوم التالى، رغم التعب قررت الذهاب إليها، وأكون أكثر وضوحا وحدة وأنا أطلب منها وبحزم أن تبقى بعيدة عن أحلامى، فأنا رجل يخشى الأحلام كما يخشى الحياة، كانت مولية ظهرها وأنا متقدم من خلفها نحوها، وحماس يتأجج بداخلى للانتهاء من الحكاية، لكن صوتها أرجفنى وجعلنى أقف على بعد خطوة منها، بينما هى تستدير بكامل ألقها وطغيان أنوثتها، وصوتها العذب يغنى نفس أغنيتها على النبع. صدر له: حديث خاص عن الجدة، غواية الشر الجميل، جر الرباب، مساحة للموت، كتاب الحكايات ( مجموعات قصصية) روايات: نجع السلعوة، فتنة الصحراء، العمة أخت الرجال، خور الجمَّال.