الأمية آفة اجتماعية، يكابدها من يقع فيها، ويعانى منها كل من حوله، وترشح آثارها السيئة على المجتمع بأسره. فالأمى به جزء معطل، حتى لو كان يكدح ويكسب ويضيف إلى الحياة المادية الكثير، وهو «فرد ناقص» لأن الإنسان لم يُخلَق ليأكل ويشرب ويتناسل كالسوام، ولا يعمل فقط كالآلة، لكن ليتذوق ويتسامى ويفهم ويدرك ويربط وينقد ويبدع، وكل هذه الطاقات القلبية والعقلية يمكن أن تتعطل أو يعطب جزء منها جراء الأمية. وقد عرفت على مدار حياة طويلة فى قريتى العزلاء المنسية أناسا أذكياء بالفطرة، طموحين بلا حدود، لكن ذكاءهم وطموحهم كانا يصطدمان دوماً بأميتهم، وكان نهمهم إلى معرفة ما يدور حولهم فى العالم الفسيح يقف باستمرار عند حاجز العجز عن فك شفرات الحروف الأبجدية ومعرفة مبادئ الحساب. ورغم أن بعضهم كانت لديه فطرة أكثر استعداداً للتقدم فى مسالك الحياة، أو كان يملك جينات وراثية ذكية، أو لديه إلهام وتخاطر، فإنه لم يرتق إلى المستوى المطلوب، ومع تقدم السنين فاقه من هو أقل منه ذكاء فطرياً أو وراثياً لمجرد أنه ذهب إلى المدرسة وتلقى تعليماً منتظماً، فاكتسب ثقافات ومهارات أهلته لأن يحصد من ثمرات الحياة ما يليق به. ورغم اتساع رقعة التعليم من الناحية الظاهرية والشكلية وزيادة عدد المدارس فإن الأمية الأبجدية لم تتراجع، بل حافظت على تواجدها وتتقدم أحياناً إلى مستويات مخيفة جراء تخلف بعض الأسر عن تقديم أولادهم إلى التعليم الأساسى من ناحية، وقيام البعض الآخر بتسريب أنجالهم وأحفادهم من التعليم، دون أن يكون قد حصّلوا ما يؤهلهم لقراءة سليمة معافاة، وسيطرة بعض الأفكار الخاطئة التى ترى أن البنات يجب ألا يذهبن إلى المدارس، وإن ذهبن فلفترة محددة، تطبيقاً لمثل يقول: «مصير البنت الزواج»، وقتلا لمبدأ عظيم يحويه بيت شعر عميق لحافظ إبراهيم يقول: «الأم مدرسة إذا أعددتها.. أعددت شعباً طيب الأعراق». وتظهر بيانات الالتحاق بمستويات التعليم الثلاثة فى بلدنا العريق أن هناك تطوراً كمياً ملموساً قد حدث، إلا أن المعدل تباطأ فيما بعد نسبة إلى الزيادة المطردة فى عدد السكان. ويُعْزَى ذلك إلى تراجع حجم إنفاق الدولة على التعليم، وتضاؤل دور التعليم فى الحراك الاجتماعى. فمن قبل، وعقب الاستقلال، كانت الطبقات الدنيا والمتوسطة تقبل على التعليم إقبالاً شديداً، لأنه كان يُعبّد أمام أبنائها طريقاً وسيعاً للتحرك إلى الأمام، على مستوى الكسب المادى وتحصيل المكانة. أما اليوم فالجهاز البيروقراطى للدولة امتلأ عن آخره، ولم يعد هناك مكان لوظائف جديدة، وحتى لو حصل الشاب على وظيفة فإن العائد المادى لم يعد مجزياً وسط غلاء الأسعار وانتقال سلع عديدة من مجال الكماليات إلى مجال الضروريات. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن أعداداً غفيرة ممن أكملوا تعليمهم حتى نهاية المراحل الجامعية يعانون «أمية ثقافية»، لأن دراستهم اقتصرت على المرور السريع على المناهج المقررة سلفاً، حتى لو أمعن بعضهم النظر فيها ووعاها عن ظهر قلب، فإنها فى حد ذاتها قاصرة عن صنع عقل ناقد ومبدع. ومن أسف، فإن نظامنا التعليمى ينتمى إلى الطريقة الأولى، التى تعتمد على الحفظ والتلقين، وتوصد الباب أمام الابتكار وإنتاج الجديد والملائم، الأمر الذى حوّل مدارسنا إلى ما يشبه «الكتاتيب» وحول جامعاتنا إلى مدارس أولية، فضعف مستوى الخريجين، وتضاءلت قدرتهم على أن يحوزوا منهج تفكير مناسب فى حل مشكلاتهم الحياتية، علاوة على عدم ملاءمة الأغلبية منهم لسوق العمل، لأن الجهات التعليمية التى مروا بها، ثم لفظتهم إلى الشارع، لم تُعْن بالتدريب، قدر عنايتها بالتدجين، وتعمدها سلب التلميذ فى البداية والطالب فى النهاية أى قدرة على التفكير المستقل، وأى منطق لبناء موقف من المجتمع والعالم، بل والكون الفسيح. وأضر هذا الوضع ضرراً بالغاً بالبحث العلمى، فبات يدور فى أغلبه حول «جمع المتفرق» أو «اختصار المسهب» و«تطويل المختصر»، ولم يرق إلى المستوى المناسب فى تأدية وظائف البحث الأخرى، ومنها «تجلية الغامض» و«استكمال الناقص»، ولا تلوح فى الأفق أى بوادر على أنه سيصل عند أغلبية باحثينا إلى المرتبة الأسمى فى البحث والتدقيق وهى «نقد السائد» و«ابتكار الجديد»، وهما مرحلتان مهمتان ليس بالنسبة للعلم ومناهجه فحسب، بل أيضاً بالنسبة للحياة العملية، بمختلف اتجاهاتها ومناحيها. وللأمية الأبجدية والثقافية أثر ضار على السلوك الاجتماعى، فالدراسات الاجتماعية تبين أن أغلب المنحرفين والجانحين من الأميين، والدراسات السياسية تظهر أن الأمية بألوانها كافة تؤدى إلى تراجع مستوى الانخراط والمشاركة السياسية، كما أن دراسات التنمية تبين أن تراجع المستوى المعرفى للعامل والفلاح والموظف يؤثر سلباً على معدلات النمو، من منطلق الدور الرئيسى الذى يلعبه العنصر البشرى فى التقدم الاقتصادى والرفاه الاجتماعى. إن تشخيص الأمية ليس صعباً، لكن الصعوبة تكمن فى تطبيق الاقتراحات والدراسات التى بحثت عن سبل لإيجاد «مجتمع بلا أمية». وأتصور أن المسألة تحتاج إلى إرادة صارمة من الدولة، لتطبيق إجراءات محددة ونزيهة وشفافة فى هذا المضمار، وتخصيص الأموال اللازمة لذلك، تعين على تقديم مكافآت تشجيعية لمن يسعى إلى محو أميته. ويمكن وضع شروط أمام المتخرجين فى المدارس والجامعات بأن يقدم كل منهم عدداً محدداً ممن ساهم هو فى محو أميتهم قبل اعتماد درجته العلمية، وذلك على غرار التجربة الكوبية، ويجب أن يكون الحصول على شهادة محو الأمية شرطاً أساسياً فى تولى الوظائف والسفر للعمل بالخارج وأداء فريضة الحج، ويجب أن يساهم الجيش والشرطة والمؤسسات الدينية فى هذه المسألة.