طبقاً لمواعيد ساعات العمل فإن هذا اليوم قد إنتهى، و الرجوع إلى دفئ المنزل و الأسرة هو أول المتطلبات ..... و آخرها، ركبت عربة المترو و جلست على أول مقعد يقابلني، أو بمعنى أدق إرتميت عليه، فطبقاً للساعة البيولوجية فإن اليوم كان يوماً منهكاً جداً. طبقاً للتوقيت المحلي لتلك المدينة العريقة فإننا مازلنا في منتصف اليوم، الساعة مازالت تشير إلى السابعة مساءً، و إن كنت أنا قد إنتهيت من هذا اليوم بحلوه و مره، لكن هناك آخرون قد إبتدى يومهم لينتهي وقت ما يحلو له و لهم. بعين نصف مفتوحة من كثرة الإرهاق، و عقل نصف مشوش من كثرة التفكير و جسد نصف جالس من كثرة الزحام رأيته، كان واقفاً أمامي، شاباً في أواخر العشرينات أو أوائل الثلاثينات، منظره يؤكد أنه نزل من بيته للتو، شعره مازال لامعاً من ذلك " الجيل " الذي يغرقه، في كل حركة من حركاته تشتم رائحة النشاط و الحيوية، العطر الذي يستخدمه مازال فواحاً، حذائه مازال لامعاً .... للغاية. كل ما سبق كان طبيعياً، لذلك قمت بمحاولتين، الأولى أن أتجاهله و الثانية أن أخطف نوماً سريعاً حتى أصل لمحطتي في آخر خط المترو، المؤسف أني فشلت، فضول عقلي منعني من التجاهل، و ضجيج الركاب منعني من النوم. يقف واضعاً يديه الإثنين في جيوب بنطاله الجينز الواضح أنه جديد، إصبعي الإبهام هما فقط اللذان خرجا من ذلك الجيب، كأنها علامة من إحدى علامات " الروشنة "!!! لمدة ثواني ظل واقفاً بلا حراك، ثم بدأ و ليته لم يبدأ. في أول الأمر كنت أعتقد أنه ينظر أمامه من باب اللياقة، فلا يجوز أن ينظر إلى الجالسين و كأنه يحسدهم، إلا أنه في الحقيقة كان ينظر إلى زجاج عربة المترو الذي يعمل داخل النفق كمرآة، مرآة تصلح لأن يلامس أطراف شعره ليساوي و يعدل ما يمكن تعديله. بدأ في إظهار طرف التي شيرت الأبيض الذي يرتديه من أسفل السويتر الأسود، أسقط البنطال قليلاً، فقط ليتناسب مع المظهر العام الذي يوحي بأنه ذاهب لمقابلة بعض الأصدقاء أو دخول أحد السينمات أو أي شئ ترفيهي آخر، الأكيد أنه ليس مدير أمن المحطة أو وزير الأسفلت أو رئيس شركة الطيور المهاجرة. إستمر في التحديق في زجاج العربة، الآن بدأ في تعديل وضع التي شيرت، فلقد لاحظ أنه توجد به بعض الكسرات الطبيعية الناتجة عن حركته المستمرة، في رأيي أنها لن تؤثر على جمال ذلك المشهد الخلاب، لكنه كان يرفض حتى تلك الكسرات، بدأ في تعديلها لتظهر تلك الساعة التي تلتف حول معصم يده اليسرى، يبدو أنها ساعة غالية الثمن. لا أدري لماذا هو بالذات من وقف أمامي، و لماذا هو بالذات من لفت إنتباهي لهذه الدرجة، و لماذا هو بالذات من أردت سؤاله إلى أين هو متجه، و ماذا يعمل، خصوصاً بعدما وجدته يجري فور نزوله معي من عربة المترو، إلا أن الظابط وأمناء الشرطة تمكنوا من القبض عليه ..... بتهمة مازلت لا أعلمها حتى الآن. بقلم م / مصطفى الطبجي [email protected]