كنت أستمع لصديقى شارداً، وهو يحدثنى عن جيل جديد، يؤمن بفهم عصرى لروح الإسلام، متجاوزا حرفية النصوص إلى غايتها، ومتعاملا مع أفكار عصره بثقة وندية. كان يتحدث فى حماسة ولا يعلم أن نجيب محفوظ قد تنبأ بذلك فى روايته «رحلة ابن فطومة»، التى تجاهلها النقاد اليساريون، للأسف، لأنها تمثل عودة نجيب محفوظ الحميمة للإسلام. ■ ■ ■ من أهم شخصيات الرواية، الشيخ «حمادة السبكى» إمام مسجد «دار الحلبة»، التى تحقق فيها ما تمناه صديقى. بطل الرواية «ابن فطومة» خرج مغاضبا من ديار المسلمين، بعد ظلم فادح تعرض له، وقرر أن يجوب البلاد باحثا عن الكمال المنشود، فى رحلة استغرقت عمره كله، والحقيقة أنها رحلة الإنسانية جمعاء فى بحثها عن الحقيقة. ■ ■ ■ مساحة المقال لن تسمح باستقصاء الأحداث، فلنقل إنه ذهب أولا إلى «دار المشرق»، حيث يعيش أهلها عراة على الفطرة، بعبارة أخرى يمثلون التاريخ السحيق للإنسانية قبل تحضّرها، ثم إلى «دار الحيرة»، حيث يعبد الناس الملك، ويسود القمع والظلم. وكلما رأى مظلمة تذكر أختاً لها فى ديار الإسلام، فيقول حزينا: «ديننا عظيم وحياتنا وثنية». ثم يصل إلى «دار الحلبة»، حيث تحدث المفاجأة المزلزلة ويسمع صوت الأذان، فيظن أنها أرض إسلامية، ويندفع إلى المسجد فى فرحة متوهجة، لينهال على الإمام تقبيلا، فى رمز قوى لعودة نجيب محفوظ إلى أحضان الإسلام. ستنعقد صداقة قوية بينه وبين الشيخ «حمادة السبكى» وسنعرف منه أشياء عجيبة: «دار الحلبة» ليست ديارا إسلامية كما توهم، ولكنها دار الحرية التى تُمثل فيها جميع الديانات، ويحق للجميع التعبير عن رأيهم، فالحرية هى القيمة المقدسة عند الجميع. فى البدء كانت البلاد يسودها الظلم، ثم آمن المفكر الأول بالحرية، ومنه صدرت أول دعوة للحرية وراحت تتسلسل جيلا بعد جيل، لم يكن الطريق سهلا، وإنما مر بالدماء والحروب الأهلية( تأمل كلام صديقى!!)، حتى أعلنت الحرية نصرها النهائى وانتصر العلم. ■ ■ ■ الدولة فى «دار الحلبة» لا شأن لها بالأديان، وتعامل الجميع على قدم المساواة الكاملة. أكد الشيخ «حمادة السبكى» أنهم تجاوزوا المذاهب الأربعة لأن الاجتهاد عندهم لم يتوقف لحظة. وللمرأة دور كبير فى «دار الحلبة»، حينما اطلعت ابنة الشيخ على واقع ديار الإسلام وقارنته بدور المرأة فى عهد الرسول، قالت فى حزن: «الإسلام يذوى على أيديكم وأنتم تنظرون!». كان ابن فطومة فى حيرة شديدة بين ما يراه وما اعتاده فى ديار المسلمين: يقومون بأشياء يراها جرأة تصل إلى حد الكفر، لكنهم يصلون بحرارة وتأثر، وإيمانهم صادق وأمين!، فأين الحقيقة؟ قال للشيخ «حمادة السبكى»: «إن النبى (ص) لو بُعث حيا لأنكر جوانب من إسلامكم»، فردّ الشيخ على الفور: «لو بُعث النبى لأنكر إسلامكم كله»!! ■ ■ ■ «رحلة ابن فطومة»: رواية تستحق القراءة.. وأفكار تثير التأمل. [email protected]