حينما استيقظ فى الصباح بدا له كل شىء عاديا مثل سائر أيامه: الخبز الردىء، الإفطار عديم المذاق، وكوب الشاى الذى يرشفه على عجل ليلحق بالحافلة فى طريقه إلى عمله كالمعتاد. كل ما هنالك أنه أثناء سيره المتعجل فى الطريق، لمح بائعا يذبح طيرا فى محل الدواجن القريب من منزله، فتعكر مزاجه بشدة.. ولعل أكثر ما ضايقه هو ذلك الطابع المهنى الذى ارتسم على وجهه - وهو يفعل ذلك - وملامح اللامبالاة وعدم الاكتراث، وكأن مخلوقا لا يقرر - ببساطة مميتة - إنهاء حياة مخلوق آخر لمجرد أنه أكبر وأقوى! أغمض عينيه بسرعة وقد أدرك أن المشهد أذاه بحق، يرى بعين الخيال الطير الذبيح وهو يرقص رقصته الأخيرة، بينما يتفجر الدم من عنقه، والمحزن أكثر هو لامبالاة الطيور الأخرى، التى استمرت تنقر الحب فى يأس مريح مرت به هذه الخواطر المحزنة وهو يسرع فى طريقه إلى الحافلة التى توشك على التحرك. كان يسير بخطوات سريعة على الرصيف، مستغرقا بالكامل فى عالمه الداخلى، لذلك لم يلحظ انحراف السيارة ناحيته، ولكنه سمع دوىّ نفيرها وصوت فرامل شنيعة لتلك السيارة وهى تقتحم الرصيف. ثم تقترب منه ككابوس متحرك لا يمكن الفرار منه. تسمّر فى مكانه من فرط الرعب وعدم التصديق. لكنّ السائق – لحسن الحظ - استعاد سيطرته على السيارة فى اللحظة الأخيرة، ليهبط من جديد إلى الشارع بعد أن دفعته دفعا خفيفا إلى الأرض دون أن يصاب جسده بسوء. وبطرف عينيه رأى – وهو مكوّم على الأرض - فتى ماجنا وبجواره فتاة خليعة يتضاحكان بصوت عابث مُنفّر وهما يسابقان سيارة أخرى تطوى الطريق طيا، وبعد ثوان قليلة صارت تلك السيارة التى أوشكت أن تدهمه مجرد نقطة فى نهاية الطريق، قبل أن تختفى تماما عن ناظريه. تكوّم الرجل فى الطريق مبعثر الوجدان من فرط الرعب المميت، لم يكن جسده قد أصيب بأذى، فالحادث مر بسلام والحمد لله، ولكن نفسه قد اعتراها أذى بالغ، ظل جالسا على الأرض غير قادر على النهوض وهو لا يُصدق النجاة، لم يستوعب عقله ما حدث بعد. حقا لم يقترب منه الموت قط إلى هذا الحد المخيف لم يتوقف له أحد وإنما كانت السيقان تتخطاه وهو يسب السائق فى غل دون أن يُصغى إليه مخلوق. نهض بصعوبة مُعبّرا عن استيائه من شباب هذا الجيل الوغد. هل رأيتم كيف كانت تضحك فى ميوعة هذه الرقيعة التى كانت تجلس جواره وكأنها ترتاد الملاهى ولا تهدد حياة إنسان؟! هو بالتأكيد أشرف منها! إنسان مكافح لم يسرق مثلكم يا حثالة. لم يمتلك سيارة فى حياته ولا يحلم بامتلاكها. رجل لم تطل قامته بالوقوف على أكتاف غيره ولا خطف اللقمة يوما من فم فقير. لكن أحدا لم يعره اهتماما، لقد شهد الجميع الموقف الخاطف، ثم ساروا جميعا إلى شؤونهم فى غير اكتراث. « أصلها بلدهم مش بلدنا.. حتى الرصيف لم يعد آمنا فأين نسير يا أولاد الحرام؟». فى المصلحة التى أدركها متأخرا تحمّل على مضض عدم اكتراث رئيسه، الذى استمع إلى الحادثة ثم قرّعه على التأخير. زملاؤه أيضا استمعوا لما حدث بنصف أذن، ثم راحوا يقرأون الصحف ويرتشفون القهوة ويتجادلون فى مباراة الأمس. وبعد!! كأن حياته فقاعة صابون يلهو به طفل أحمق ثم تنفجر. عجيبة حقا هذه اللامبالاة التى قابل بها الجميع حادثة زميل لهم فى الإنسانية، قال لنفسه على مهل يائسا أن يسمعه أحد: «لقد كان يسير على الرصيف ناعما بطمأنينة كاذبة، طمأنينة غير مبررة أبدا، طمأنينة ما كان ينبغى أن يشعر بها وسط وطن جهول. مجرد رجل آخر يسعى لأكل عيشه. هو من ناحيته لم يخطئ على الإطلاق، كان يسير على الرصيف، وإذا بشاب رقيع، فتى جهول - وبصق على الأرض فى غل - يقود سيارة لم يدفع من ثمنها قرشا وإنما ابتاعها له أبوه اللص، بالقطع هو لص وإلا ما قاد ابنه سيارته الباهظة بكل هذا القدر من الاستهتار. من أين يحصلون على كل هذه الملايين؟ من قروض البنوك؟ من شقاء المطحونين؟! وهناك أيضا هذه الفتاة الخليعة المستهترة بثيابها الفاضحة وفخذها الأبيض وملامحها المتعالية غير المكترثة، ماذا كانت تقول؟ نعم، يذكر الآن بوضوح، تعالت صرخاتها الضاحكة وهى تهتف «حاسب يا مودى». اسمه إذن « مودى». لكن مودى يقتحم الرصيف دافعا إياه إلى الأرض، مُكوّما كشىء، كملابس قديمة مُهملة، لم تر فى هذا الموقف المريع إلا موقفا يثير الهلع الضاحك والصياح الرقيع! وحينما تمكن من استعادة سيطرته على السيارة لم يكن همه الاطمئنان عليه وإنما ملاحقة الوغد الآخر، بصق على الأرض فى غل، ماذا نصنع بأبناء الحرام هؤلاء؟! أليس الإعدام رحمة لا يستحقونها؟! على مائدة الغداء - التى لم تعد تجمع الأسرة إلا بمصادفة غير مقصودة - قال فى هدوء مفتعل - هل عرفتم ما حدث فى ذلك الصباح؟ رمقته الزوجة فى اهتمام، ورفع الابن الأكبر عينين متسائلتين، أما ابنه الأصغر فانهمك فى ازدراد الطعام بعجلة تدل على انشغاله بأمر ما. فى غضب متصاعد راح يقص الحكاية على مهل، ويرقب فى غضب أشد ملامح عدم الاكتراث التى رآها بكثرة تفوق اللزوم فى هذا اليوم، بدءاً من الدجاج الذى كان ينقر الحب فى غير اكتراث بزميل له فى النوع يُذبح. أخيرا، قالت الزوجة فى لهجة من تود إنهاء الحديث: المهم إنك سليم. حدق فيها فى وجوم، وهو يفكر: أحقا هو سليم؟ وتساءل فى نفسه وهو يلوك الطعام فى بطء: «هل أحس الطير- وهو يُذبح- بمثل ما يشعر به الآن؟!». [email protected]