تمر وحب، جمال وكمال، أسير فى المدينةالمنورة، أهيم فى المدينةالمنورة، أذوب فى المدينةالمنورة، أتراجع فى الزمان، تختفى السيارات وأعمدة الإضاءة، تختفى الشوارع المرصوفة، تختفى البيوت. وتبقى المدينةالمنورة، كتلة من اللون الأبيض، بحيرة من النور الأبيض، جنة من الحب الأبيض. ومن اللامكان ينساب صوت شجى، من منشد حزين عبقرى، ضرير يبصر بنور الله، يُولد بعد ألف وأربعمائة عام، فى بلاد مصر، اسمه «النقشبندى»، ينشد بصوته الرهيف الذى يشبه الكروان: «ترفقى يا ريح بالمدينةالمنورة.. تعطرى يا ريح من أرجائها المعطرة فحيثما هببت أو حللت - يا رياح - ستحملى أريجه. صلوات الله وسلامه عليه». الرسول يغادر الغار، يلتفت إلى مكة، قريته التى أخرجته، تترقرق الدموع فى عينيه، وتسيل الوحشة فى صدره، يرفرف قلبه مثل عصفور جريح، يتحامل على نفسه، ويسير فى الفلوات. المدينة فى انتظار الرسول، نبى آخر الزمان. الثياب بيضاء، البيوت بيضاء، القلوب بيضاء، الدهشة بيضاء، الفرحة بيضاء، حتى الحجارة بيضاء!!. هيمنت السكينة على المدينة، واستولى الحب على القلوب. «ترفقى يا ريح بالمدينةالمنورة.. تعطرى يا ريح من أرجائها المعطرة فحيثما هببت أو حللت - يا رياح - ستحملى أريجه. صلوات الله وسلامه عليه» الرسول يخترق الصحراء، الصحراء طويلة، ليس أطول منها إلا الحزن. الرمال حتى آخر النظر، رمال من بعدها رمال. وفى الأفق خيام. مبارك أيها النبى فى الروحات والغدوات. يضع يده المباركة على شاة «أم معبد» التى أقعدها الجهد فى السنة الجدباء. هزيلة، مُتعبة، واسعة العينين. يبارك رأسها ويحلبها. عرفت الشاة أنه نبى. فاتسعت عيناها فى حب، سكت البشر ونطقت العجماوات! يتدفق اللبن من الضرع الشحيح، اللبن أبيض، مثل ثوب الرسول أبيض، مثل قلب النبى أبيض. «صلوات الله وسلامه عليه» يلوح الرسول من بعيد، العصافير تطير بسرعة لتنقل الأخبار، الأنصار يقفون فوق سطوح المنازل المتصلة مباشرة بالسماء. والسماء صافية الزرقة، تنقش السحب قصائد الحب لمحمد، لا يقرؤها إلا الأنقياء. يرفع الأنصار رؤوسهم ليقرأوا ما دوّنه السحاب. يكتب السحاب: «طلع البدر علينا». والبدر نزل إلى الأرض، سكن فى وجه محمد. «نبينا الذى تعطرت بحبه الأرجاء نبينا، حبيبنا الذى تدثرت بنوره الأنحاء تكاملت من أجله الأوصاف» أضاءت أحجار المدينة، كأنها شموس صغيرة، كأنها قناديل منيرة. الأشجار تزداد خضرة، والأزهار تزداد حمرة، والبلح يزداد حلاوة، فرحة بجوار محمد، خاتم الأنبياء. يشد الحجارة على بطنه، وهو سيد الجزيرة، ويعرف الجوع النبيل الذى يدفعه للالتحام بقلب الكون. فيرق ويصفو باطنه ويفهم لغة الوجود. الغزالة تبكى للنبى ضياع فلذتها فى الفلوات. والإبل يشكو قسوة صاحبه، ويئن الجذع حنينا للرسول. «إنسانُ عين النور والسرور والعطاء نبينا، حبيبُ أهل الأرض والسماء». [email protected]