لن يعاود محمود محمد حمودة «30 سنة» فتح محل الأدوات الصحية الذى يعمل فيه بدائرة مشتول السوق التابعة لمحافظة الشرقية، بعد أن أغلقه يوم الانتخابات، تحسباً لوقوع مشاجرات بين أنصار المرشحين، ولن ينحنى على يد والدته يقبّلها فور دخوله منزل عائلته، الذى لا يبعد عن محله سوى أمتار قليلة، ولن يجلس مع والده وشقيقيه فى انتظار طعام الغداء ليتناولوه سوياً، والأكثر من ذلك أنه لن يحقق لوالدته أمنيتها بأن تراه عريساً يجلس فى «الكوشة» بجوار عروسه التى كان سيزف إليها فى اليوم التالى لانتخابات مجلس الشعب، ولكنه بدلاً من ذلك سيتخذ من كفنه الأبيض ثوباً يُزف به عريساً إلى السماء بعد أن وضعت رصاصة طائشة من معركة انتخابية بالدائرة خاتمة حزينة لحياته. فى منزل عائلته المتواضع راح صوت الشيخ عبدالباسط عبدالصمد يتسلل مرتلاً آيات القرآن فى وداعة ورقة تليق بالعريس الراحل، مقاعد العرس التى استأجرتها الأسرة من محل فراشة قريب لاستخدامها فى استقبال المعازيم وضعت داخل سرادق العزاء ليجلس عليها المعزون، فى حين امتدت «الحُصْر البلاستيكية» أمام المنزل لتجلس عليها السيدات المعزيات. فى داخل المنزل، كانت والدته الحاجة أم شحتة ترقد على أريكة خشبية وسط أجهزة طبية، قالت عنها إحدى المعزيات إنها تستخدم فى إسعافها بعد أن فقدت الوعى عقب سماعها خبر وفاة ابنها، وأنها أحياناً تستعيد الوعى لتنادى على ولدها قائلة: «ابنى دمه راح هدر، ومات ليلة فرحه، ومن غير ما يتعشى». تشعر أم شحتة بالحركة من حولها فتفتح عينين مظلمتين وتحرك شفتين جافتين لتقول بصوت مبحوح: «مالناش فى الانتخابات، ولا نعرف مين اللى هيترشح، ابنى بيخرج من الصبح كل يوم على لحم بطنه عشان يومية 5 جنيه، واليوم ده ملحقتش أشوفه قبل ما يمشى»، تنتهى الكلمات وتغلق الأم عينيها وتتوقف شفتاها عن الحركة وتبتلع صوتها المبحوح إلى حين. على دكة حجرية بجوار المنزل جلس الوالد العجوز وحيداً واضعاً رأسه الأشيب بين كفيه، بدا اعتزاله جموع المعزين وسيلة صامتة لإعلان الحزن النبيل، يرفع رأساً مثقلاً بالهموم، ويقلب عينين محمرتين قبل أن يقول: «الانتخابات بتاعة الكبار جت علينا بموت ابنى، ولا ذنب لنا فى أخطاء كبار البلد»، يغلق فمه ويعاود وضع رأسه بين كفيه جالساً وحده على الدكة الحجرية. يتمالك الأخ الأكبر شحتة أعصابه وهو يروى قصة مقتل شقيقه الأوسط بقوله: «محمود ماعندهوش بطاقة انتخابية ومالهوش دعوة بالانتخابات ولا يعرف حاجة فى السياسة، ويوم الانتخابات قفل محل الأدوات الصحية اللى شغال فيه عشان يبعد عن المشاكل، لكن نعمل إيه فى الحظ اللى خلاه يعدى على مدرسة مشتول الابتدائية وهو راجع البيت، وماكانش يعرف إن فيه خناقات بين أنصار المرشحين وضرب نار، ولا كان يعرف إن فيه رصاصة طايشة هتكون من نصيبه، ومن قلة حيلتنا خفت أعمل بلاغ ضد حد بعد وفاته، فدفنته وراح دمه هدر». نفس الكلمات يرددها أحمد إبراهيم، أحد شهود العيان، مضيفاً إليها أنه بمجرد إصابة محمود بالطلق النارى وقع غارقاً فى دمائه والتف الجميع حوله وحملوه إلى مستشفى مشتول السوق العام وسط بكاء وعويل الأهالى، وهناك صرح أحد الأطباء بأنه توفى لحظة الإصابة ولم يكن هناك داع لأن يحملوه للمستشفى. تنتهى الانتخابات فى الدائرة، ويفوز فيها من فاز ويخسر من خسر وتبقى الأسرة المكلومة تلوك حزنها فى صمت، فمهما يحقق لهم نواب مجلس الشعب الفائزون، فإنهم لن يستطيعوا إعادة قلامة ظفر واحدة من أصابع ابنهم الشاب الذى راح ضحية بريئة لمعركة انتخابية لم يكن له فيها ناقة ولا جمل.