الرئيس مبارك تانى..! ألا يوجد فى هذا البلد «موضوع» مهم - يستحق أن تكتب عنه - سوى «شخص» الرئيس؟ يقول رئيس التحرير، ثم يشبك النظارة فى أذنيه، ويبدأ فى قراءة المقال، فأوسوس محرضاً: «أنت تعرف أن كل الموضوعات فى هذا البلد مجرد فروع لجذر واحد هو شخص الرئيس».. فيرد مبتسماً: «أنا خايف عليك تتبألز». لا أستطيع أن أحدد - بالضبط - مشاعرى تجاه الرئيس مبارك: «الموضوع» طبعاً.. وليس «الشخص». كثيراً ما أسخن، وأفيض يأساً وإحباطاً، وأنخرط فى حشد المطالبين بأن يحمل الرجل عصاه ويرحل. لكننى أحياناً أفكر مع أصدقاء بصوت عالٍ: «لو كنت أحكم شعباً مسالماً كهذا لما تركت الحكم إلا بقدرة من وسع كرسيه السماوات والأرض»، فإذا بهم أكثر منى تخبطاً وحيرة: «عندك حق». لا أستطيع إذن، ولا أحب أن أصنف مقالاتى عن السيد الرئيس: أهى نقد للرئيس ك«موضوع»، أم تطاول عليه ك«شخص»، أم أنها نوع من «الهجاء السياسى»، كما قال رئيس تحرير إحدى الصحف يتكون من رأس كبير وصفحة أولى بمنافعها، واسم من كلمتين يتوسطهما حرف جر، وذلك تعقيباً على مقال كنت كتبته فى مناسبة مرور أول ربع قرن من حكم الرئيس مبارك. لكنها فى الغالب تضع رئيس تحرير «المصرى اليوم» - شأن مقالات كثيرة لكتاب آخرين - بين شقى رحى: «عقلانية» المسؤول عن تجربة جيل.. وشطط الموهوب، المولع بتجاوز ما يسمى «خطوط حمراء». وفى الغالب يخيب رئيس التحرير ظنى، وينحاز ل«شطط الموهوب»، وينشر المقال: «ماتقلقش طول ما انته موضوعى.. ماحدش يقدر يبألزك». والحقيقة أننى لا أكون قلقانا، لأننى ببساطة لا أعرف ماهية «البألزة»: هل تنتمى مثلاً للزغزغة أم لقرص الودن؟.. هل كلها ضرب، أم فيها شتيمة؟.. هل هى «عودة» عبدالحليم قنديل، أم «اختفاء» رضا هلال؟.. هل تبدأ من لاظوغلى أم تنتهى وراء الشمس؟ أقول لمجدى الجلاد فى كل مرة: «أعدك بألا أكتب عن الرئيس». أقولها وأنا لا أصدق نفسى، إذ تحولت الكتابة عن الرئيس - فى ظل غفلتى وجهلى بفقه البألزة - إلى ما يشبه اصطياد عصفورين بحجر واحد: هى من ناحية «غواية» بحد ذاتها. ومن ناحية أخرى تعويض عن إفلاس الواقع. وقد حاولت أكثر من مرة أن ألتزم بوعدى، وأن أبحث عن «موضوع» آخر يمكن كتابته، فلم أجد. التوريث يوشك أن يصبح أمراً واقعاً لكثرة ما تحدثنا عنه، بل لا أستبعد أن يكون الحزب الوطنى قد شكل لجنة من جهابذة الاقتصاد والسياسة والقانون لتدبيج البرنامج الانتخابى للأستاذ جمال مبارك. التطبيع تحول إلى تلاسن مجانى بين دعاة سلام متبجحين ودعاة حرب لا يطربون أحداً، بينما إسرائيل تغرد وحيدة. الوقفات الاحتجاجية أصبحت ««ماسخة»، ولا تخيف أحداً، وشكل الواقفين على أرصفة الشوارع وسلالم النقابات وهم يختبئون وراء ركاكة وتهافت لافتاتهم، يشبه متسولين يستجدون حقوقاً يعرفون من أخذها وأكلها و«صرفها» سماً هارياً فى مياههم. جاموسة قطار العياط أقالت وزيراً فاحتسبناها شهيدة، لأن كل ضحايا حكومة الدكتور نظيف أصبحوا شهداء، ولو كنت كتبت عن هذه الجاموسة - وأنا من بيئة تكاد تعبدها كما يعبد السيخ أبقارهم - لسئلت على الفور: «تقصد مين بالجاموسة!». معركة شيخ الأزهر والنقاب، مثل معركة مصر والجزائر فى تصفيات المونديال، أكبر دليل على أننا شعب «مضحوك عليه»، لأن «حب البلد» مقابل «كراهية النظام» لن يغير أياً منهما. الصراع الدائر فى مطبخ الإخوان لا يختلف عن صراعات التجمع أو الوفد أو حتى صراعات «الوطنى» نفسه، لكنه «ضرورة درامية». الصحف التى تبحث فى طابور أسماء ذات ثقل علمى أو سياسى عن مرشح لانتخابات 2011 الرئاسية، تقفز على نص المادة 76 من الدستور، وصولاً إلى رسالة محددة، مفادها: «ضد مبارك أباً أو ابناً، ومع أى شخص آخر حتى إذا لم يغير شيئاً».. القضية إذن أصبحت «تغيير وجه الرئيس»! هكذا عدت صاغراً إلى «شخص» الرئيس، فحنثت بوعدى، وكتبت عن كلمته فى افتتاح المؤتمر السادس للحزب الوطنى: «تانى..!». ثم حمى وطيس المؤتمر، وكشر الأستاذ جمال مبارك عن أنيابه، وانهالت سواطير البألزة على المعارضة والإخوان، ففكرت أن أسأله: ما كل هذا الاستقواء يا أستاذ جمال؟.. إلامَ تستند، وعلى من، وبأى حق؟.. ثم ما شأنك أنت بالفقراء؟.. هل تعرفهم ويعرفونك؟.. هل أكلت من زادهم وشربت من مائهم ونمت على فراشهم وسمعت مواويلهم وعديدهم؟ فكرت أن أسأله، لكننى خفت! خفت أن يصبح جمال رئيساً لمصر فيبألزنى، أى: «يفجرنى تطويراً وتحديثاً».. وهذا أضعف البألزة.