استيقظت من نومي اليوم على صوت أكثر المخلوقات إزعاجاُ، ذبابة كبيرة الحجم عالية الطنين كثيرة الحركة مخيفة المنظر، فتحت عيني ببطء وظللت أتابعها، تمنيت كثيراً أن تخرج من الغرفة لتطنطن في مكان آخر، لا يهم أين هو هذا المكان الآخر فأنا لن أهتم كثيراً بهذا، كعدم اهتمامي من أين أتت أو كيف تسللت، المهم أن يوم أجازتي لا يضيع هدراً مع ذبابة قررت بدون سابق إنذار أن تقوم بدور المنبه "أبو دم تقيل"، خرجت الذبابة من باب الغرفة وقبل أن أحمد الله وأعود إلى نومي عادت مسرعة، على ما يبدو أنها ذبابة عديمة الأخلاق تأصلت فيها صفة النكد وقلة تقدير المواقف، عديمة الإحساس نزعت منها الرحمة فأصبح قلبها صلداً كالصخر، إن كان مازال لها قلب. و لأن المثل الشعبي يؤكد (من عاشر القوم أربعين يوم) فأنا على يقين تام "وأقطع دراعي من هنا هو" أن هذه الذبابة كانت مستضافة من قبل ذبابة أخرى في فترة سابقة، ذبابة أخرى تعيش في أحد المستشفيات، أو أحد المستوصفات، أو أحد المراكز الطبية، لماذا؟ لأن المثل الشعبي مازال يؤكد تلك الحقيقة، لماذا "برضه"؟ دعونا نستمع إلى قصتين مختلفتين في المكان والزمان والبني آدميين والمادة، متفقتين في المضمون والمعنى. ذبابة واضح عليها مظاهر العز، فالجسد ممتلئ فهي كبيرة الحجم والصحة جيدة فهي تحلق عالياً والحياة وردية فهي سعيدة ولماذا لا؟ فالهواء نظيف والطعام متوفر والمكان واسع، المكان هو أحد المستشفيات الخاصة التي لا يقترب منها إلا علية القوم من أصحاب الملايين والبلايين، كانت هذه الذبابة أثناء طيرانها شاهدة على تلك المرأة الثرية كما هو واضح من منظرها، الأجنبية كما هو واضح من لهجتها، المرتبكة كما هو واضح من لهفتها، الخائفة كما هو واضح من زوجها الموجود في عربة الإسعاف، لم تدري تلك الذبابة من ذلك المكان المرتفع ما هي علة الزوج بالتحديد، فقررت الهبوط مضحية بأمنها وسلامتها لتعرف ما هي القضية وعلى ماذا الخلاف، الحوار الذي على صوته وضح للجميع أن مسئول الحسابات بالمستشفى طلب من الزوجة دفع 100 ألف جنيه تحت الحساب، وللأسف كان بحوزتها 70 ألف جنيه فقط ولخطورة حالة زوجها طلبت منه وضع سيارتهما تحت أمر المستشفى لكنه رفض وأصر على دفع المبلغ كاملاً قبل دخول الزوج إلى المستشفى، اتصلت الزوجة بمدير الفندق الذي تقيم به والذي تحدث إلى مسئول الحسابات وأخبره أن المريض رجل أعمال ثرى وأن أمواله في خزينة الفندق وأنه متكفل بإحضارها له، لكن مسئول الحسابات بالمستشفى رفض وقال إن إدارة المستشفى ترفض هذا الأسلوب وتريد المبلغ كاملاً، وأخبرهم أن الجراحة لن تتم حتى يدفع المبلغ كاملاً، النتيجة أن الرجل توفى بدون أدنى إحساس بالمسؤولية تجاهه، لم تهتم الذبابة كثيراً بهذا الموقف التي كانت شاهدة عليه، ربما لأنه يتكرر كثيراً، أو أنها عامة لا تهتم إلا بغذائها وعدم الاقتراب من صاعق الناموس والذباب المعلق في أكثر من مكان. ذبابة واضح عليها مظاهر البهدلة، فالجسد نحيف فهي صغيرة الحجم والصحة غير جيدة فهي كلما ارتفعت وقعت على الأرض والحياة سوداء فهي تعيسة ولماذا لا؟ فالهواء معبأ بالأتربة والطعام قلما وجد والمكان ضيق كحواري بيوت النمل، المكان هو أحد المستشفيات العامة التي لا يقترب منها علية القوم، فهي مليئة بالأمراض والأوبئة مع عدم وجود سرائر، كانت هذه الذبابة أثناء وجودها على الأرض تحاول جاهدة تفادي هذه الغابة الكثيفة من الأرجل شاهدة على تلك المرأة المتوسطة الحال كما هو واضح من منظرها، بنت البلد كما هو واضح من لهجتها، المرتبكة كما هو واضح لهفتها، الخائفة كما هو واضح من الطفل الذي تحمله على كتفها، لم تدري تلك الذبابة وسط تلك السيقان الغزيرة ما هي علة الطفل بالتحديد، فقررت محاولة الطيران عالياً مستنفرة ما تبقى من طاقتها لتعرف ما هي القضية وعلى ماذا الخلاف، الحوار الذي على صوته وضح للجميع أن الشخص الجالس على شباك التذاكر رفض دخول تلك السيدة إلى المستشفى لأنها لا يوجد معه باقي ثمن التذكرة، فالتذكرة ثمنها جنيه واحد وخمسة قروش، والسيدة دفعت جنيه واحد فقط ولا تمتلك أي نقود " فكة "، فمازلنا في أول الشهر وكل النقود ما زالت "مجمدة"، حاولت هذه السيدة توضيح الأمر لذلك الشخص الجالس بلامبالاة إلا أنه أصر على دفع المبلغ كاملاً قبل دخول الطفل إلى المستشفى، بدأت هذه السيدة في التكشير عن أنيابها خوفاً على الطفل وغيظاً من ذلك الشخص الغير آدمي، لم تهتم الذبابة كثيراً بهذا الموقف التي كانت شاهدة عليه، ربما لأنه يتكرر كثيراً، أو أنها عامة لا تهتم إلا بغذائها الغير متوافر والتجول في غرفة العناية المركزة المكان الوحيد المكيف في المستشفى. مع الفارق الكبير بين الذبابتين إلا أنهما يتعرضان لنفس المواقف، مع اختلاف الشخصيات والنتائج، والسؤال الذي طرأ في ذلك العقل الصغير لتلك الذبابتين، هل لو كان المريض قريب أو نسيب لمسئول الحسابات أو لموظف التذاكر، هل كان سيعامل بنفس تلك الطريقة التعسفية أم أنه "هيتشال من على الأرض شيل"؟ لصغر عقل الذباب فهو لم يستطع إيجاد إجابة على سؤال مهم كهذا، وإن كان ليس هو المخلوق الوحيد الذي يسأل هذا السؤال. بقلم م / مصطفى الطبجي