هكذا الحُسْنُ قد أمَر!

قبل عام، كتبتُ هنا مقالاً عنوانه: «طواويسُنا الجميلة»، فى عيد ميلاد الموسيقار محمد عبدالوهاب (13 مارس 1902 - 3 مايو 1991). ناقشتُ فيه حتميةَ شعور الفنّان بفرادته، وتميّز رسالته فى الحياة. لأن ذلك من شأنه أنْ يُلقى على كاهل المبدع عبءَ الجمال. يا له من عبء! أنْ يشعرَ المرءُ بسموّه وعلوِّ شأنه، يجعله يرهَبُ الوقوعَ فى الزلل، فينتج، من ثَم، فنًّا رفيعًا، وينأى عن المبتذل السفيه.
كتبَ الشاعرُ الفرنسىّ تشارل بودلير قصيدةً عنوانها «فقدانُ الهالة»، يتحدث فيها عن الهالة التى تكلّلُ جبينَ الشاعر، فتمنعه من فعل الدنايا، التى يأتيها السُّوقةُ الأفظاظ. وتمنّى، فى قصيدته، أن تسقطَ عن هامته تلك الهالة، لبرهة، كى يجرّبَ ارتكاب الحماقات والصغائر، مما يرتكبُ السَّفلةُ والمجرمون، دون أن يطرفَ لهم جَفن!
هذا الشعور بالتميز جعل فنانًّا هائلاً مثل عبدالوهاب يكتب فى تصديره كتابَ د. رتيبة الحفنى: «عبدالوهاب.. حياته وفنّه»، عبارةً طاووسية عجيبة، قائلاً: «محمد عبدالوهاب فنانٌ عبقرىّ، لو أنَّ اللهَ خلقَه فى أىِّ عصر، أو أىّ مكانٍ، لكان مخلوقًا فذًّا. يؤمنُ تمامًا بأن مكانَه الطبيعىّ بين صفوف الزعماء. استطاعَ بفضل فنّه أنْ يكتبَ اسمَه بحروفٍ كبيرة فى التاريخ».
نندهشُ جدًّا من أن يكتب شخصٌ مثل هذا عن نفسه، وإن كان الرأىُ صحيحًا! سوى أننا نعرفُ كيف نُمرّر تلك الطاووسيةَ والنرجسيةَ لرمز فاتن مثل عبدالوهاب، (هكذا الحسنُ قد أمَر!)، لقاءَ ما منحنا من قِطَع فنية خالدة؛ تشهد لمصرَ بالريادة فى الفنّ، مثلما شهد لها التاريخُ بالريادة فى الحضارة والعمارة والنحت والتشكيل والطبِّ والهندسة والفلك والسياسة والتوحيد وسواها من منجزات الإنسان الحضارية فوق الأرض.
فى فيلم «2012»، الذى يرسمُ نهايةَ العالم الوشيكةَ بسبب ظاهرة الاحتباس الحرارىّ فوق الأرض، تأتى عبارة مدهشة على لسان الرئيس الأمريكىّ. يقول: «عالِمٌ شابٌّ واحد يساوى عشرين سياسيًّا مخضرمًا!» ويمكننا ببعض التصرّف إحلالُ العديد من المُدخلات البديلة فى هذه المعادلة الرياضية الصحيحة: فنّانٌ حقيقىّ= 20 سياسيًّا، مُعلِّمٌ نبيلٌ مخلصٌ،= 20 سياسيًّا الخ.
أما قصيدة بشارة الخورى: «جَفنُه عَلَّمَ الغزل»، بصوت عبدالوهاب، عام 1933، فليس أبدعَ منها فنًّا، ولو بعد ألف عام! لحنّها وغنّاها على إيقاع آلة موسيقية بسيطة واحدة منفردة هى الكاستانيت، Castanet، تلك التى ابتكرها المصريون القدامى والرومان والإغريق، قبل ألوف السنين، فيما يشبه الصنجة، أو «شخشيخة» الأطفال.
أُنصتُّ إليها آلافَ المرات، مئات الأيام، ولا أقدر على الخروج من حال الدهشة التى تتملكنى كلما سمعتها! ليس من لحنٍ موسيقى تقريبًا، اللهم إلا إيقاعٌ الكاستانيت الرتيب، التى تنتظم إيقاع مجزوء المتدارك: فاعِلُن فاعلن فَعِل. «كيف يشكو من الظَّما مَنْ له هذه العيون؟» نموذجٌ فريدٌ للفتنة تخرجُ من ثوب البساطة، لتحتلّ أعقدَ درجات الجمال والاكتمال الفنىّ!
فيا عبدالوهاب، أوحشتنا جدًّا؛ فأدركْنا، بعد سيْل الركاكة الموسيقية الذى يجرفنا، وغيمات التلوّث السَّمعىّ التى تظلِّل أفقنا.
fatma_naoot@hotmail.com