عندما كتبت فى هذا المكان «جوانتانامو التعليم المصرى» (7 فبراير)، منتقدة تصريحات وزير التربية والتعليم المشجعة على الضرب فى المدارس بحجة إعادة هيبة المعلم، لم يكن لدى أدنى شك فى أن تلك التصريحات ستؤدى إلى حوادث عنف. وليس غريباً أن نسمع بعدها بأيام عن أول الضحايا، الطفل سيف الدين أحمد، الذى كسر مدرسه ذراعه وهو المريض بسرطان الدم وفيروس سى. الغريب إلى درجة الغيظ أن يتحرك الوزير ويطلب فتح باب التحقيق الفورى فى الواقعة بينما هو المحرض الرئيسى وراء تلك الجريمة. وعلى مؤسسات المجتمع المدنى المناهضة للعنف والمهتمة بحقوق الطفل أن تقاضى الوزير بتهمة التحريض على العنف فى هذه الجريمة تحديداً.. أليس للمحرض نفس عقاب منفذ الجريمة أمام القانون؟! والحقيقة أن مقالى السابق هذا كان دافعاً لى أن أتأمل مستويات العنف المتعددة التى يعانى منها مجتمعنا فى الفترة الأخيرة وأكتب عنها، فبينما يعانى تلاميذ المدارس الإيذاء البدنى تنفجر فى وجوهنا توصية الجمعية العمومية لمجلس الدولة الرافضة تعيين النساء عضوات فى المجلس. ما يجمع بين القضيتين هو العنف: العنف الجسدى فى حالة التعليم والعنف الفكرى فى حالة القضاة. يخبرنا د. محمد نور فرحات (فى مقاله فى «المصرى اليوم» 24 فبراير) أن «الجمعية العمومية لمجلس الدولة قد زعمت لنفسها ولاية لم ينص عليها القانون حين تصدت للتصويت على جواز أو عدم جواز تعيين النساء فى المجلس». كما أن المجلس أيضا فى هذه الواقعة، كما يخبرنا أستاذ القانون د. فرحات، ينتهك المادة 40 من الدستور التى تقر مبدأ المساواة بشكل باتر. لماذا قفز حماة العدل فوق حدود الدستور والقانون؟ الإجابة تتلخص فى نوعية الثقافة التى تتحكم فى البنية الفكرية للمجتمع. فمثلما ينطلق وزير التعليم من فلسفة أبوية سلطوية تسمح للأب/ المعلم/ الأكبر سنا أن يعاقب الطفل بدنيا بدواعى التعليم والتربية، انطلق القضاة كذلك من الفكرة الذكورية التى تضع النساء فى مرتبة أدنى من الرجل، مانحين أنفسهم حقاً (لا يملكونه دستوريا)، قرروا على أساسه عدم مشاركة النساء لهم فى مواقع العدل. كما أن العنصر الثانى المشترك هو أن أبطال الحكايتين يحددون سياسات البلد من منطلق الهوى الشخصى. يأتى وزير من بعد وزير فيغير فى سياسات الوزارة، لاغياً ما قبله، فيصبح علينا دوما أن نبدأ من جديد بدلاً من أن نضيف إلى بناء قائم. أضف إلى ذلك تصادم سياسات جهات الدولة، فلا شك أن المجلس القومى للطفولة والأمومة ووزارة السكان لهما رأى آخر فى موضوع الإيذاء البدنى للطفل. أما القضاة الذين خاضوا كفاحا من أجل استقلالهم فهم يقمعون نصف المجتمع بدعاوى لا تصلح إلا للعصور الوسطى المظلمة. ولأن من خصائص الثقافة الذكورية السلطوية الغرور الذى يجعل معتنقيها يظنون أنفسهم الأصلح والأذكى والأقوى فهم لا يراجعون أنفسهم، وبالتالى يتجمدون داخل أفكار بالية من بين أمثلتها العديدة العنف البدنى كأداة للتربية وإقصاء النساء. لا يمكن أن نفكر فى تغيير أو أن نحلم بتطور، بينما يحكمنا الهوى الشخصى والفكر الذكورى بدلا من القانون واحترام حقوق الإنسان.