النيل نجاشى بالعبقرية هذا التعبير رغم غرابته على الأذن، وصف بسيط لكنه موجز ومنجز تماماً، فهو يعبر بكل عبقرية عن وصف نهر النيل فالنيل حقيقة نجاشياً وليس أحمسياً أو رمسيسياً، فالنيل أثيوبى وأثيوبيا هى النيل دون أدنى مبالغة بل هو إقرار للواقع والجغرافيا والعلم فى دولة للأسف ليس فيها للعلم مكاناً. كم منا فى مصر يعلم أن منابع نهر النيل تقع فى أثيوبيا وأن ماء النهر العظيم يأتى من دولة عظيمة إسمها الحبشة دولة ذات تاريخ وحضارة عريقة إستطاعت قهر الإيطاليين فى وقت كنا نرزح فيه تحت نير الإحتلال، دولة هى مهد المسيحية فى أفريقيا بل والعالم أيضاً ولها مريدون فى أقاصى أرجاء الأرض ... بل من منا يعلم بوجود دولة إسمها أثيوبيا من الأساس، تلك الدولة التى كانت هى وملكها النجاشى خير ملاذ لأتباع سيدنا محمد فى وقت ضن عليه أهله وظلموه، دولة ذات شعب طيب كباقى شعوب القارة السمراء يتماس معها أمننا المائى والقومى منذ قديم الزمان ومن سخرية القدر أنه لا تربطنا بها أية علاقات متميزة سواء تجارية أو ثقافية يمكن أن تكون حائط صد منيع وعمق إستراتيجي لبلدنا. إن أثيوبيا هى أهم وأكبر مصدر لمنابع النهر خاصة لمصر فهى المغزى الرئيسى لماء النيل القادم إلينا عبر رحلته الطويلة من بحيرة فيكتوريا فى أقصى الجنوب فالنيل الأزرق أو الأثيوبى كما أحب أن أسميه يعذى أكثر من 85% من ماء النهر القادم إلينا عبر السودان، فأمطار هضبة الحبشة هى المورد الأساسى لنهر النيل ومن السخرية العميقة أن الدولة التى تغذى النهر بأكثر من 85% من كمية مياهه لا تتعدى حصتها 5% من ماء النهر وللدكتور رشدى سعيد أبو النيل دراسات عميقة وكافية عن تلك النسب والحصص، فى حين أن دولة مصب مثل مصر نصيبها يكاد يتجاوز 85% من ماء النهر رغم أنها مجرد مستقبل للمياه ولا تغذى النهر بأية مياه وذلك بحكم قانون الجغرافيا، وبدلاً من إحتواء دولة كأثيوبيا والتعاون معها بل وغزوها ثقافياً واقتصادياً، تركناها للإسرائيليين والقطريين ... إلخ وتعالينا عليهم بل وعلى كل شعوب القارة السمراء، وقد كان من السهل جداً التعامل معهم وإحتوائهم لو صدقت النوايا ولو كففنا عن لهجة الإستعلاء والإملاء على هؤلاء خاصة وأننا لسنا فى مركز قوه كالسابق بل إننا نعانى ضعفاً وإنحطاطاً حضارياً وما كان مقبولاً من الشقيقة الكبرى قديماً لم يعد له مكاناً فى هذه الحقبة البائسة من تاريخنا، فقد تخلت مصر عن دورها الإقليمى فى المنطقة ذلك الدور الذى اهتم به للأسف الفراعنة منذ القدم وتأمينهم لمنابع النيل حتى عهد عبد الناصر ودوره التاريخى مع أبناء القارة. فأفريقيا تتقدم وتتطور وليس ذنبهم أننا دولة تتقدم للخلف در، ومن كانت أعينهم مغمضة فى السابق قد تفتحت عيونهم وعقولهم وأصبح من حقهم الدفاع عن مصالح بلدانهم، فماذا قدمنا لأفريقيا حتى تقدم لنا تنازلات ماذا فعلنا لهم ؟ لم نفعل شئ على الإطلاق، وفى الوقت الذى كان الرئيس الأمريكى يجوب القارة ويلتقى بزعماءها، لم نرى رئيسنا الذى يجوب العالم المتقدم شرقاً وغرباً يزور أفريقيا ويلتقى قياداتها إلا فيما ندر وعز. العالم كله يتجه إلى أفريقيا والإستثمارات بالمليارات فى هذه القارة الحبلى بالكنوز وما تقوم به الصين وغيرها من الدول لا يحتاج إلى شرح أو بيان، حتى أن دولة إستعمارية مثل إنجلترا قد أنشأت وزارة كاملة للموارد موجهة أغلب ميزانيتها والتى تتعدى المليار إسترليني سنوياً إلى دول القارة فى هيئة منح لا ترد، ولما لا يكون لنا وزيراً للشئون الأفريقية ما الضير فى أمر كذلك وعندنا من الوزراء من لا يعلم عنهم أحد شيئاً وليس لهم أى دور تقريباً. ولما لم نوجه لهم منحاً بمليار أو اثنان كانت كفيلة بأن تجعل لنا دوراً ونفوذاً عظيماً فى دولة كأثيوبيا بل وفى القارة كلها أم أن المليارات حلال على رجال الأعمال من محتكرين للحديد ولغيره من السلع فى مصر وحرام على أمن مصر القومى وعلى الحفاظ على نقطة المياه التى نعيش عليها، ولما يجد الشوام وغيرهم من الغرباء عن القارة مكاناً لهم فى أفريقيا ونحن لا نجد، لم لا نساعد شباب مصر على السفر والاستثمار فى تلك الدول وأين رؤية الدولة لتنمية التجارة بين مصر ودول القارة فالعالم كله يتكالب على أفريقيا ونحن لازلنا نراهم مجرد زنوجاً خشنين بل لا توجد قناة فضائية موجهة إلى أثيوبيا وغيرها من الدول الأفريقية فعندنا عشرات القنوات الفضائية التافهة ذات الميزانيات المهولة والتى لا يشاهدها أحد وليس لها أى دور أو معنى، ولما يتوجه العالم كله بقنوات لنا بلغتنا ألا نتعلم منهم ونتوجه نحن أيضاً بقنوات موجهة إلى محيطنا الإقليمي ومجالنا الحيوى. إن أى تلميذ أو نصف قارئ يعلم منذ أكثر من 20 عاماً أن العالم بخاصة دول المنطقة مقبل على نوع جديد من الحروب يسمى حروب المياه والكثيرون كتبوا فى هذا الأمر الكثير، لكن يبدو أن الوحيد الذى لم يكن يعلم هو أهل الحكم فى مصر، فالكل يؤمن مصادر مياهه ويبحث عن بدائل ويستعد للأسوأ من تركيا إلى إسرائيل إلى أثيوبيا عدانا نحن الذين لا ندرى شئ ويبدو والله أعلم أن حكام مصر قد فوجئوا بهذه الأمور ويبدو ذلك جلياً فى حالة الإرتباك والتخبط التى أصابت بها الدولة المصرية وكأن القيامة قد جاءت فجأة ولم يستطع أحد توقع ميعادها. أية حكومة هذه ؟ والتى لا تستطيع أن تحافظ على نهر عظيم كنهر النيل والذى كان سبباً فى قيام دولة عظيمة كمصر وحولها من دول تقع فى نطاق جغرافى صحراوى مجدب إلى أول دولة متحضرة فى التاريخ وإلى نشأة أعظم حضارة وأقدمها فى تاريخ البشرية كلها، فهل يصل فشل الحكم فى مصر إلى هذا الدرك السفلي حتى نتعامل مع مشكلة مثل هذه بكل هذا البرود والإستسهال. متى يدرك عباقرة النظام فى مصر أن المعاملة الرديئة والمتعالية التى يتقبلها الشعب المصري لا يمكن للدول الحرة فى أفريقيا ولشعوبها أن تتحمله ، فهم أحرار وليسوا مثلنا للأسف الشديد ولن يقبلوا هذا الإستعلاء والإملاء، وهناك مفاجأة أخرى للحكم فى مصر فقد تحررت أفريقيا وولى زمن العبودية وأصبحت دولة حرة حتى أن آخر معاقل الإستعباد وهى جنوب أفريقيا قد أصبحت حرة أيضاً ومنذ زمن، حتى أن أغلب دول القارة أصبحت تعيش فى ظل أنظمة ديمقراطية والتعامل معهم يجب أن يسوده الاحترام المتبادل والندية فى التعامل فهم ليسوا مثل مصر كما قال كعب الأشراف الخير فى مصر والذل معه متلازمان. أما ما يقال عن الحقوق التاريخية والإتفاقيات فهو شئ مضحك فلو أن التاريخ قد ظلم البعض فهل هم مطالبون بأن يعيشوا طول الزمان فى ظلم وهل كنا نقبل إتفاقيات مجحفة مثل التى وقعتها دولة إستعمارية كإنجلترا عام 29 لو كانت ضد مصر، وهل الدول الإستعمارية مازالت تتحكم بإتفاقيتها المجحفة وظلمها فى شعوب قد تحررت منها منذ زمن، أم أن للإستبداد أثراً رجعياً، كما أن القانون الدولى قانون مرن فهو كالكائن الحى، ويلعب فيه العرف والقوة دوراً كبيراً بل وحتى إن كان القانون يظلم تلك الدول فهل نشارك نحن أيضاً فى ذلك الظلم أم أن نبحث عن حلول مرضية لكافة الأطراف. أما أكثر ما يضحكنى هو تصريحات السادة الأشاوس من المسئولين الحكوميين فى مصر من أن مصر ستستخدم كل السبل والطرق للدفاع عن حقوقها التاريخية (لاحظ كلمة الحقوق التاريخية هنا وإستخدام اليهود لها فى فلسطين أيضاً) لردع هذه الدول وإيقافها عند حدها فى تلميحات لإستخدام القوة العسكرية وهذا والله نكتة النكت. ورغم أننى وغيرى نتوق إلى أن يدخل الجيش المصرى معارك حقيقية لمصلحة مصر، ولمصلحة الجيش أيضاً، وأداء وظيفته الأساسية بدلاً من أن نبحث له عن أدوار لا تليق به، لكن هل هذه هى معاركه الحقيقية، وبالله عليكم كيف يمكن لنا التلويح بالقوة تجاه أكثر من 7 دول لا تربطنا بها حدود مشتركة أم أننا فجأة قد أصبحنا دولة عظمى ترسل حاملات الطائرات والجيوش الجرارة لإخضاع هذه الدول، فإذا كانت دولة كأمريكا بكل ما تملك من قوة عسكرية وإقتصادية جبارة غارقة فى مستنقع الحرب حتى أذنيها مع دولتين فقط ولها ردح من الزمان هناك ولم تحقق إنتصار نهائى، وأقصى ما يحلم به الرئيس الأمريكى هو الخروج المشرف للجيوش الأمريكية، فما بالنا نحن بمستنقعات وأحراش أفريقيا، ثم ما الداعى إلى تلك الكلفة الرهيبة والأمر برمته لا يحتاج سوى حفنة أموال قليلة لا تمثل أدنى شئ لثروة واحد من أباطرة الحزب الحاكم فى مصر، وأين القوة الناعمة للدولة المصرية إذاً وهل أثيوبيا أصبحت أقوى من إسرائيل مثلاً حتى نخاف منها ونعجز عن إحتوائها، فالطريق سهل ومازال مفتوحاً أمامنا كى نستوعب دول المنبع ونهضمها تماماً ونهضم معهم دولاً أخرى كالجزائر وغيرها، لكن شريطة أن تصبح مصر دولة بالمعنى الحقيقى للدولة التى يكون لها رؤية سياسية طويلة الأمد تعمل فيها السلطة على مصلحة الدولة والشعب وليس مصلحة من يجلسون على الكراسى ومن السخرية أننا كنا محتلين وكان عندنا دولة بحق رغم الإحتلال وكان لنا نفوذ كبير فى أفريقيا، حتى أنه فى عهد عبد الناصر ورغم العداء لمصر من كافة الدول الغربية الكبرى وكنا فى حالة حرب مع دولة قوية كإسرائيل ومع ذلك كان لنا دور كبير وسيطرة ثقافية وكنا نحظى بإحترام وتقدير أخلاقى كبير فى تلك الدول وكان أغلب قادتها يدرسون فى الجامعات المصرية لكن ما العمل مع نظام قد همش مصر داخلياً وخارجياً وعرض أمننا القومى للخطر وهو أمن له كنظام قبل أن يكون أمنناً للدولة المصرية، وما يمكن لهذا النظام أن يفعل أمام دولاً أفريقية خارجية، وهو الذى أهمل مدناً مصرية وشعباً مصرياً كشعب النوبة أو كشعب حلايب وشلاتين الذين أصبحا سودانيو الهوى والهوية فالنظام الذى يعجز عن إحتواء وهضم وتمصير شعبه كسيناء والنوبة وغيرهم الذين يكرهون مصر بسبب تجبر وظلم أهل الحكم وإستعلاءهم لا يمكن له أن يحتوى أو يتعامل للأسف مع دول المنبع، فلو أن جزء يسير من ثروة مصر وجه إلى هذه المدن أو لو أن أحد أباطرة الحزب الوطنى من المليارديرات المحتكرين قد وجه ملياراً واحداً وهو مبلغ لا يمثل له أدنى قيمة إلى هذه المدن لكان هذا كفيلاً بإنعاش عقل وقلب وهوية أهل مصر فى سيناء وشلاتين وغيرها، أما المفاجأة الأخيرة وهى أن أفريقيا أصبحت غنية، والسودان مثلاً أى زائر لها أو حتى للمدن على حدودها يرى بعينه أن مستوى المعيشة هناك فى إرتفاع كبير جداً وأنهم يودعون الفقر وإقتصادهم يقوى ويتقدم وهو شئ لا تخطئه العين فأفريقيا كلها تعوم على بحر من البترول، والعملة السودانية مثلاً هى خير دليل على ذلك فيعد أن كان الجنيه المصرى بعشرات منها أصبح الجنيه السودانى يساوى أكثر من 2 جنيه مصرى والمزيد آت، متى نفيق من عمانا ونلحق آخر فرصة لنا مع أفريقيا؟ ومتى نمحى الكراهية التى ذرعناها فى قلوب الأفارقة وقى قلوب شعب شقيق مثل السودان قتلنا أبناؤه من اللاجئين بكل دناءة؟ متى نستعيد محبتهم لكى نقوى بهم ونستفيد منهم فهم الأقرب لنا فى النهاية رغم كل شئ...