«أنا أفريقى قطعا.. هل تمزحين؟! صومالى نعم.. ولكن الأهم بكل تأكيد أننى أفريقىٌ!». هكذا ردد «موسى»، سائق التاكسى الصومالى بمدينة سياتل، وبكل ثقة كلمة «أفريقىٌ» عندما سألته عن هويته وانتمائه. فى مقابل تلك الثقة بدا «موسى» مترددا بخصوص «أفريقية» مصر فى نظر المصريين. لكن رغم التردد الأولى، وكمن يصارع فكرة ما فى رأسه بطرح حجة مضادة، استجمع «موسى» أفكاره وقال: «لكن مصر دولة أفريقية.. نعم! مصر أفريقية. أنا لا أستطيع الحجر على حق المصريين كأن أدّعى أنهم أقل منى «أفريقية» مثلا. فليس بلونى ولونكم...« غير أنه تمهل، وقال: «ولكن كثيرا ما يبدو لى أن المصريين أنفسهم لا يعتزون بأفريقيتهم». لمست بعض الإحراج فى عبارة «موسى» الأخيرة- ذلك الإحساس الذى ينتاب المرء حين يشعر أن آخر يتنكّر لانتمائه إليه رغم قرابةٍ ما تجمعهما. فهو لا يلومه مباشرة فى اختيار انتماءاته، ولكنه يشعر بارتباك ما فى ذاته، كأن يتساءل: «ألا أستحق أن يُنتمى إلىَّ؟». لذلك استطرد «موسى» حديثه عن أفريقيا كمن يريد أن يدلل على قيمتها ويبرهن على أحقيتها فى أن ينسب «الفراعنة» أنفسهم بفخرٍ إليها، فقال: «أفريقيا جميلة للغاية. رائعة حقا! فالذين جاءوا من أوروبا فى أوقات الاستعمار واستقلوا بها وجدوا الجمال والخيرات فرفضوا الرجوع لبلادهم التى وجدوها أقبح وأفقر، فإذا كانت أفريقيا فى عين الآخر البعيد بهذا الوصف فاتخذوها (موطنا)، فكيف للمصريين ألا يرونها كذلك؟». جاءت كلمات «موسى» لتشرح ما يعتبره بديهياً، ولكنه يشك فى إيمان المصريين ببديهيته فقال: «أنتم المصريين تستطيعون قيادة هذه القارة بأكملها وجعلها كالولاياتالمتحدة إن أردتم.. ولكن هل تريدون؟». تحدث عن عبدالناصر وعن السادات- الذى يشبهه فى الواقع-وكيف شُيدت التماثيل لهذين »القائدين« كما وصفهما، ولكن «موسى» عبّر عن شعوره أن مصر أهملت امتدادها الجغرافى الطبيعى فى أفريقيا فضعُف الصومال ذاته: «لو مصر قوية نحن نقوى. مصر والسودان واليمن والصومال يجب أن يفكروا فى أنفسهم كوحدة ما، أليس أهم شىء للإنسان هو بيته والحى الذى يقطنه؟ فهل من الممكن مثلا ألا تعبأ الولاياتالمتحدة إطلاقا بكندا أو المكسيك؟!». فى تاكسى آخر استقلاته هذا الأسبوع كان السائق إثيوبياً هذه المرة فسألنى ضاحكاً: «هل تعرفين النيل؟» قلت له: «طبعا أعرفه! أليس هذا ما تحاولون أن تعاركوا المصريين عليه؟»، فرد شارحا: «لكن المصريين يأخذون النيل كله لذلك لديهم تنمية عظيمة، أما نحن فالنيل ليس لنا ولذلك نحن فقراء وبلا تنمية». هل هذا تصور الإثيوبيين إذن؟ مصر متقدمة وهم فقراء والنيل هو ما تستغله مصر لتغنى نفسها فقط؟ كانت السماء تهطل مطرا كمعظم الأيام فى سياتل، فقلت له: «أتعرف؟ ليس هناك مطر غزير كهذا فى مصر، ربما بضعة أيام فقط فى الشتاء»، فكان وقع هذه المعلومة كالمفاجأة الصاعقة على الإثيوبى، وبالفعل كنت قد اختبرت هذه المعلومة مع إثيوبيين من قبل وكانت الدهشة مماثلة، فاستطردت: «أنتم لديكم مطرٌ فى إثيوبيا ولذلك احتياجكم لسدود تخزين المياه ليس كاحتياج مصر، فإن أنتم حاولتم بناء سدود فذلك قد يعنى إغلاق المنبع على المصريين- تماما كمن يغلق صنبور مياه لمن يريد الارتواء». بدا الإثيوبى وكأنه يسمع تلك الكلمات لأول مرة على الإطلاق، وعلينا أن نتفهم السبب لذلك، فكثيرا ما يتخيل المرء أن ظروف الآخر مثله تماما، ففى ذهن الإثيوبيين مصر تهطل بها الأمطار تماما مثل بلدهم، ولكنها تبنى سدودا وتتحكم فى النيل دون اكتراث بتنمية الدول الأخرى، وبالتالى فهى دولة متقدمة، مهيمنة، ومستغلة لموارد الآخرين. فقط حين تصور هذا الإثيوبى جغرافيا مختلفة وظرفاً مناخياً جافاً قال: «أهذا الحال حقا؟ ليست هناك أمطار كعندنا؟ وكيف لنا إذن ألا نفكر فى ذلك؟ نحن لا نريد الضرر أبدا بالمصريين»، أكمل باستنكار شديد: «أن تعطشوا أو تجوعوا؟! لا، قطعا لا نريد ذلك»، فتساءل باستغراب: «ولكن كيف لا نعرف نحن الإثيوبيين هذا؟ حكوماتنا لا تقول لنا أياً من هذا». بعد بعض التفكير وتغير تصوره الأول عن سبب أزمة النيل بين مصر وإثيوبيا قال بنبرة هادئة ومتقربة: «لكن ربما يجدر بالمصريين التحدث إلينا أكثر إذن.. ربما يجب أن يكلمونا نحن الإثيوبيين بشكل مباشر يجعلنا نتواصل معهم دون أن نشعر أنهم يستعلون علينا أو يستغلوننا». المثير الآن حقا هو أنه رغم الصراع بين إثيوبيا والصومال فإنهما تتفقان فى تطلعهما لمصر، فالآن يقول لى الإثيوبى تماما ما كان قد قاله الصومالى: «انظرى إلى أفريقيا، نحن لا نعرف بعضنا البعض، ونحن جيران، هل يعقل مثلا ألا يعرف أمريكىٌ يسكن فى نيويورك أى شىء عن كاليفورنيا أو أريزونا؟ نحن ممكن أن نكون مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية إن أردنا، مصر، إثيوبيا، أوغندا، وباقى أفريقيا يجب أن يعرفوا بعضهم البعض»، ها هو الإثيوبى يرسم خريطة لجغرافيا سياسية أخرى تضع مصر ليس فى القرن الأفريقى كما فعل الصومالى ولكن فى قلب دول حوض النيل. أخيرا سألته عن اسمه. قال لى: «اسمى Love! اسم جميل أليس كذلك؟.. تُرى هل يحب المصريون الإثيوبيين؟»، قلت له: «لا يعرفونكم بما يكفى، ربما لو عرفنا بعضنا البعض نكتشف أن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا»، تركته وتساءلت: هل يأتى اليوم الذى يرى فيه المصرى ذاته «أفريقى الموطن» تماما مثل «موسى» الصومالى و«حُب» الإثيوبى؟ وهل ما بأفريقيا من «إمكانية» لأن تصبح شيئا بالغ العظمة يحفز المصرى أن يتخذ منها قبلة، وهدفا فى المرحلة القادمة، خاصة أن هناك من ينادى بتواجده؟ أم أن دولا مثل الصين والولاياتالمتحدة وإسرائيل والهند وكذلك قطر قد سبقته وهو لا يعبأ بالسباق؟ البدء بسيط: الخريطة و«ويكيبديا»! * زميل مركز دراسات الشرق الأوسط جامعة واشنطون- سياتل- الولاياتالمتحدةالأمريكية [email protected]