ائذن لى- أيها القارئ الكريم- أن أدعوك إلى تصوير هذا الموقف بقلبك، واملأ منه، إن شئت، عينيك، واسكب من حلاوته على رياض وجدانك التى ربما شكت إليك طول الصدأ من كثرة ما تسمع من عنف وقسوة، عبر ميراث بغيض من المفاهيم الخاطئة، ذلك الموقف الذى حدث صبيحة يوم أحد، يوم القرح كما سماه ربنا- تعالى- فى القرآن الكريم، قابل النبى- صلى الله عليه وسلم- معبد الخزاعى، وكانت قبيلة خزاعة بنص السير والتاريخ عيبة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مسلمهم ومشركهم، ومعنى العيبة مستودع السر، والإخلاص فى المسالمة، كان معبد يوم قابل رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: مشركاً فقال النبى- صلى الله عليه وسلم: «لقد أثر فينا ما أصاب أصحابك بالأمس، وودنا أن الله عافاك فيهم»، كلمات كالندى الرطب، تشم منها رائحة المودة الخالية من أى شائبة، وقال له النبى- صلى الله عليه وسلم- خيراً. ولم يكتف مِعْبَد بتلك الكلمات، بل انطلق حيث لقى أبا سفيان وجنده، وأنشدهم أبياتاً من شعره بين لهم فيها أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قد جمع لهم جيشاً لا قبل لهم به، وكانوا قد عزموا الرجوع إلى المدينة للقضاء على المسلمين وهم فى جراحات الأمس، فانصرفوا إلى مكة بسبب ما ذكره معبد، الذى لم يكن يومئذ مسلماً، ولكن كان وفياً مخلصاً للنبى- صلى الله عليه وسلم- وكالعهد بينهما أن يدعه على دينه ويسالمه ولا ينصر عليه أحداً، وقد قال الله- عز وجل-: «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين» لك أن تتصور حواراً بهذا الشكل، مثلاً، يقول معبد: لقد تألمنا مما حدث لأصحابك بالأمس، فيكون الرد عليه بهذه الكلمة: - أوتشمت فيهم؟ أوغرك ما كان بالأمس؟ لا، إن الأيام دول، وسوف ترى، أو بصيغة النهى الجازم: لا تشمت، أو بما تراه من محاوراتنا نحو أنا أعلم ما فى نيتك، ومنذ زمان وأنا غير مستريح لسلامك هذا، وقد جاء الوقت الذى أفصحت فيه عما فى قلبك، ونحو ذلك من وابل الكلمات التى لا يكون من ورائها إلا إثارة العداوة والبغضاء، وتشكيك سليم النية فى نيته، ولن يحصد منها الطرفان إلّا سوءاً وشراً. ولعلى أذكر نفسى وإياك بشىء يتعلق بخلق المصطفى- صلى الله عليه وسلم- الذى ورد من قبيل العموم أنه كان خلقه القرآن، ومن التفصيل هذا الجانب الذى وضحته تلك المحاورة بينه- صلى الله عليه وسلم- وبين رجل ممن عاهدهم على الصلح والسلام مع بقائهم على ما يعبدون من دون الله، فالله عز وجل يقول فى آية التوبة: «فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم» أى مادام غيركم مستقيمين لكم فاستقيموا لهم، وهذا الذى كان من عبد آية من آيات الاستقامة، فقد جاء معزياً فى مصاب جلل، وقد تقبل النبى- صلى الله عليه وسلم- منه عزاءه، وشكر له ذلك، وقال له خيراً، فلم يزده ذلك إلا وفاء، وقام بدور عظيم فى دفع ضرر عن الإسلام والمسلمين، والله يؤيد دينه بما يشاء وبمن يشاء من عباده طواعية وغير طواعية والمأساة التى نعيشها فى زماننا أننا نشك فى استقامة المستقيم مسلماً كان أو غير مسلم، وربما كان لنا شىء من العذر من كثرة النماذج التى ادعت الصلاح والاستقامة ثم كان ما كان منها من بشاعات، وضربنا فى ذلك المثل القائل: «تمسكن حتى تتمكن» لكن لا ينبغى العموم ولا التعميم، والحذر ليس متعارضاً مع قبول من ظاهره الاستقامة حتى يتبين اعوجاجه!