أثناء آخر اعتقال لي في عام 2007 لمدة 50 يوماً عقب عزومة غداء عند الأستاذ نبيل مقبل تم نشر سلسلة مقالات لي كانت بحثاً عن «القيم والمبادئ» التي يمكن الاستناد إليها لبناء نموذج ديمقراطي إسلامي، ولكي أستعيد القارئ ليتابع هذه السلسلة الجديدة في نفس الموضوع ألخص له ما سبق آملاً أن يقوم أحد الزملاء أو الأبناء بتلخيص وافٍ للمقالات السبع التي شرحت فيها كيف أن الإسلام وهو الدين الخاتم والشريعة النهائية التي أنزلها الله لبني البشر وختم بها الشرائع والرسالات تستوعب كل فكرة مفيدة لصالح البشر ومنها "الديمقراطية" فتنة العصر وآخر نماذج الحكم التي توصل لها الإنسان ليقيم بها العدل ما أمكن ويحقق فيها الحرية لكل الناس ويصحح بها مسيرة الحكومات الاستبدادية والفاشية التي تسلطت علي أعناق العباد، ولكنها باعتراف تشرشل : نظام سيئ لكنها أفضل النظم الحالية أو «أحسن الوحشين» كما يقولون. والديمقراطية تستند إلي مجموعة من المبادئ والقيم سبق لي أن شرحت كيف أن الإسلام أخذها جميعاً في اعتباره مثل : الاعتراف بحقوق الإنسان الأساسية، وتداول السلطة سلمياً بين الأحزاب السياسية، وتعدد الأحزاب، وكفالة الحريات العامة، خاصة حرية التعبير وحرية التنظيم، وإطلاق طاقات المجتمع الأهلي، والمواطنة؛ بمعني المساواة بين كل قاطني الدول «المواطنين» في الحقوق والواجبات أمام الدستور والقانون، وضرورة المعارضة السياسية، وحرمة الحياة الخاصة، واحترام الملكية الفردية. جاء الإسلام بما يرسّخ هذه المبادئ ويضعها في إطار القواعد العامة والمبادئ الأساسية التي تقرها شريعته، حيث لم يأت الإسلام بنظام تفصيلي للحكم وإنما أرسي مجموعة من الأصول التي يجب احترامها لإقامة العدل بين الناس، كل الناس، وليس المسلمين فقط وقد قال تعالي :«إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَي أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا » «النساء: 58» يكفي أن الله عاتب نبيه صلي الله عليه وسلم في يهودي ظلمه بعض المنافقين من الأنصار في عهد النبوة والصحابة ونزلت فيه آيات بينات في سورة النساء «105-113» بدأها المولي تعالي بقوله: «إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا» «النساء: 105». ومنها إطلاق الحريات للناس، حرية الاعتقاد والرأي والتفكير وحرية النشاط والعمل، وحرية المعارضة للحكم، ونفتخر نحن المسلمين بمواقف الصحابة للشوري مع رسولنا صلي الله عليه وسلم في غزواته بدر وأحد والخندق وبني قريظة، كما نفخر بمواقف النساء مع الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه. كما تقوم الديمقراطية في صورتها الحالية المتطورة عبر قرون من الزمان منذ نشأتها الأولي في أثينا ومروراً «بالماجناكارتا» في بريطانيا وانتهاء «بديمقراطية وستمنستر» الحالية في المملكة المتحدة أو أمريكا وغيرها علي مجموعة من الآليات والوسائل التي تستوعبها نظم الإسلام أيضاً وهذا ما سنبحثه في هذا البحث الذي قد يطول بنا قليلاً للنظر في إمكانية تطبيق تلك الآليات الديمقراطية في المجتمعات والبلاد الإسلامية. وغنيٌ عن الذكر أن النظم التي عاصرها المسلمون خلال العصور المختلفة قد تلونت بلون تلك العصور وتأثرت بالحضارات التي عاصرها المسلمون في تلك الأزمان، فقد أخذ المسلمون نظام الدواوين عن الفرس وأخذوا «العملات المعدنية» عن الرومان وغيرها من النظم الإدارية والسياسية المختلفة، وهذا يدل بوضوح أنه لا حساسية لدينا نحن المسلمين في الأخذ بالنافع المفيد من نظم الأمم وحضاراتها وأساليبها الإدارية مادام أنها تحقق مقاصد الإسلام والشريعة ومادام أنها لا تحقق مصالح العباد ولا تصطدم بالثوابت الشرعية القليلة، لأن الإسلام دين إنساني عالمي جاء لكل البشر وسيبقي علي مشدار العصور وسينتشر في كل الأرجاء من أقصي الشرق إلي أقصي الغرب ومن الشمال إلي الجنوب. والإسلام يدعو إلي التجديد والاجتهاد لمواجهة حاجات المسلمين المستمرة، وللاجتهاد ضوابطه المعروفة في «أصول الفقه». وفي مقدمة حاجة المسلمين اليوم التخلص من الاستبداد الجاثم فوق صدور المسلمين، ومن الديكتاتورية التي أرهقت شعوبنا، ومن الفساد الذي تغلغل في جميع البلاد الإسلامية، ومن التخلف العلمي والتقني الذي ران علي أرجاء البلاد الإسلامية ، وتسبب ذلك كله في انحطاط عام خلقي وسلوكي واقتصادي واجتماعي ليس له علاج إلا الاعتماد علي الدين كرافعة للنهضة، نهضة تقوم علي أساس الإسلام ، دين الغالبية المسلمة، وحضارة كل مواطني تلك البلاد من مسلمين ومسيحيين ويهود ولا دينيين «وثنيين»، وكذلك عرب وفرس وأمازيغ وأفارقة وهنود، ولا أقول إن الديمقراطية تمثل الحل السحري لمشاكل المسلمين. ولا أدعي أنني امتلكت أدوات الاجتهاد وحققت ضوابطه المعروفة، ولكنني هنا أقدم رؤية وتصوراً يقبل المناقشة والحوار من أجل تحديد ما الذي نقبله من قيم ومبادئ الديمقراطية كما عرفها الغرب اليوم، وما الذي نرفضه منها؟ وكذلك : ما الذي نستطيع تطبيقه من آليات ووسائل الديمقراطية المعروفة عالمياً وما الذي يحتاج إلي تعديل أو ضبط كي تقبله مجتمعاتنا. وهذا يحتاج إلي اجتهاد جماعي بين المسلمين يقوم به العلماء والفقهاء وبمشاركة رجال السياسة والفكر وبإسهام رجال القانون والدستور بل بمتابعة من كل المواطنين علي اختلاف ثقافاتهم ومللهم وعقائدهم في بلاد المسلمين. ومن الغريب اليوم أن الذين يقفون في وجه التطبيق الديمقراطي في مصر والبلاد العربية والإسلامية مجموعة متنافرة جمع بينها إما الجهل بالمفاهيم الديمقراطية أو الخوف من الديمقراطية . يأتي في مقدمة هؤلاء جميعاً الحكام المستبدون الذين استولوا علي السلطة بالميراث العائلي أو الميراث الحزبي أو الميراث بأي طريقة للتوارث، وهؤلاء يتشدقون بالديمقراطية ويدعون أننا نعيش أزهي العصور الديمقراطية دون أي التزام بالمعايير الحقيقية للديمقراطية بل تفضحهم الممارسات الاستبدادية، ويشاركهم ذلك الموقف إسلاميون لم يبذلوا جهداً في الدرس والتفكير بعمق في المسألة، فادعوْا أن الإسلام ضد الديمقراطية، ويشن هؤلاء حملة شعواء علي كل مجتهد يبذل وسعه لبيان حقيقة الموقف الإسلامي من القضية المطروحة، كالشيخ الغزالي رحمه الله والقرضاوي العلاّمة حفظه الله، أو يهاجمون كل الحركات والأحزاب الإسلامية التي تشارك في الحياة السياسية والانتخابات البرلمانية حتي كتب أحدهم رسالة سمّاها «القول السديد في أن دخول مجلس الشعب منافٍ للتوحيد». ويأتي في الموقع نفسه- علي وجل - معظم الحركات الإسلامية والتنظيمات الفاعلة علي الساحة لالتباس في رؤيتها، وعدم البحث في جذور المسألة أيضاً، وهم لا يدرّسون في مناهجهم أي بحوث عن الديمقراطية، ولذلك سهل علي معارضيهم اتهامهم بأنهم يستخدمون الديمقراطية لصالحهم دون إيمان بها أو تقدير لها أو التزام بقواعدها، لكل ذلك جاءت تلك السلسلة الحالية لاستكمال البحث الذي أرجو أن ييسر الله لي إكماله ومراجعته ليكون بين يدي الجميع تحقيقًا للمسألة وطرحًا لأفكار حول الموضوع . لماذا بدأنا بالحديث سابقاً وأولاً عن القيم والمبادئ والأسس التي قام عليها البناء الديمقراطي والنظام السياسي الدستوري البرلماني في الجزء الأول من ذلك البحث الذي نحاول فيه إزالة الالتباس بين الحلم الإسلامي في إحياء الأمة وبناء نهضتها من جديد علي قواعد الإسلام، وبين الأخذ في نظام الحكم بالنظام الدستوري النيابي أو «الديمقراطية» كمبادئ وقيم بجانب اعتماد الآليات والوسائل التي استقرت ولو شكلياً في بلاد المسلمين؟ الإجابة تأتي رداً علي هؤلاء النخب العلمانية التي ما فتأت تضع العقبات في وجه الحركة الإسلامية وتثير الشبهات حول مدي التزام الحركة الإسلامية السلمية وبالذات «الإخوان المسلمون» بالقواعد الأساسية للديمقراطية، وتقول دوماً عدة فرضيات خاطئة، تقدمها كمسلّمات بديهية في كتاباتها وأحاديثها. مثلاً: يقولون إن شرط بناء نظام ديمقراطي هو الأخذ بالعلمانية في المجتمعات والفصل التام بين المجال الخاص للفرد في دينه وعقيدته وإسلامه، وبين المجال العام للمجتمع الذي يجب أن يستوعب كل المواطنين، وبالتالي يضعون حاجزاً بين التزام المسلم بالإسلام كنظام شامل وبين اندماجه في الحياة السياسية كمواطن. ومثلاً: يقولون إن الحركات الإسلامية السلمية التي تشارك في الحياة السياسية «كأحزاب رسمية أو حركات محجوبة عن الرسمية» وتدخل الانتخابات البرلمانية ويكون لها تمثيل نيابي «وصل في مصر إلي 20% في برلمان 2005 - 2010»، وفي الأردن إلي نسبة مشابهة، وفي المغرب إلي الرقم الثالث في ترتيب الأحزاب داخل الغرفة الأولي للبرلمان. يقولون إن هذه الحركات والأحزاب تؤمن بالديمقراطية شكلاً فقط إذا كانت في مصلحتها بينما هي لا تعتقد في المبادئ الديمقراطية والقيم الأساسية لها ولا يتمتع أعضاؤها بثقافة ديمقراطية. ومثلاً: يدّعون أن الحركات الإسلامية تؤمن بديمقراطية شعارها : صوت واحد لمرة واحدة، فإذا حصلت علي أغلبية كبيرة تؤهلها للحكم فإنها ستركل السلم الديمقراطي الذي صعدت عليه إلي سدّة الحكم لتتربع علي القمة وإلي الأبد لأنها جماعات غير ديمقراطية بالمرة. ومثلاً: يقولون إن الإسلام والإسلاميين مقتنعون فقط بالآليات والوسائل الديمقراطية كالانتخابات وتكوين الأحزاب ولكنهم مترددون في القبول بالثقافة الديمقراطية ومجموعة القيم والمبادئ والأسس التي تقوم عليها تلك المنظومة الديمقراطية. والله الموفق،،