أعادت ردود الأفعال الداخلية على المذابح الإسرائيلية ضد أشقائنا الفلسطينيين فى غزة التأكيد على الحقائق الثابتة التى تتبدى فى كل مناسبة يتعرض فيها بلد عربى إلى العدوان من بلد غير عربى، وهى عروبة مصر وشعبها ومعرفته أنه جزء من أمة عربية واحدة مفتتة مصيرها إلى التوحد وقومية المصريين العربية، وإيمانهم بها تعبيراً عن وجودهم، ولم يدفعهم إليها الزعيم -خالد الذكر- مصطفى النحاس باشا الذى دعا لإنشاء جامعة الدول العربية ووقع على البروتوكول الخاص بها فى أكتوبر عام 1944، لتكون الوعاء الذى يضمها مع غيرها، تمهيداً لوحدتها، كما لم يدفعهم إليها الزعيم -خالد الذكر- جمال عبدالناصر، الذى خاض الحرب الوحيدة ضد إسرائيل دفاعاً عن فلسطين عام 1948، كان الملك فاروق وتحالف أحزاب الأقلية العميلة للقصر الملكى والمعادية للوفد، أى أن عروبة مصر وشعبها وارتباطهم بقضية فلسطين لا علاقة له بأحزاب وتيارات وأنظمة سياسية، ولهذا لم يكن غريباً اتساع دائرة المهاجمين الذين وجهوا الاتهامات والانتقادات للنظام بالتخاذل عن نصرة الفلسطينيين، أو التواطؤ مع إسرائيل، بحيث شملت الجميع وانعكست على صفحات الصحف الحزبية والمستقلة بحيث أن طغت أصوات من ينتمون لتيارات سياسية معادية للتيارين الناصرى والإسلامى أو مختلفة معهما عليهما، وامتدت هذه الظاهرة حتى إلى الصحف الحكومية، وإن كان بلهجات أقل عنفاً ضد النظام، بينما كان المعادون للفلسطينيين يمكن تعدادهم على أصابع اليدين وأصابع قدم واحدة، كما أعادت ردود الأفعال هذه التأكيد على حقيقة أخرى، وهى أنه لا مستقبل سياسى ولا وجود للتيار الذى يتوهم فصل مصر عن عروبتها حتى وإن ظهر له لوبى إسرائيلى داخل النظام وحزبه الحاكم، ولأن النظام نفسه سيظل مربوطاً بهذه الحقيقة مهما وصل فى تحالفاته مع أمريكا، أو بيع الغاز بأسعار مدعومة لمحدودى الدخل من الإسرائيليين المساكين، أو مهما بلغ قلقه من وجود إخوان مسلمين فى غزة ممثلين فى حماس، ذلك أن الاتهامات الإسرائيلية والأمريكية والأوروبية لمصر بأنها المصدر للسلاح إلى حماس أصبحت مباشرة وعلنية، صحيح أنه لم تصدر بها لائحة محددة وبالاسم لكن من خلال إجراءات عملية واتفاقات أمنية كلها تشير إلى مصر، فكل مطالب التسوية تضمنت بنداً رئيسياً ضمن بنود أخرى، وهو وقف تهريب السلاح إلى غزة، والطريق الوحيد إليها هو حدودها البرية مع مصر، أو اتصال شاطئها على البحر الأبيض بالشاطئ المصرى، فالبحرية الإسرائيلية تتواجد فى مياه غزة الإقليمية، وإسرائيل أغلقت منذ سنوات ميناءها ودمرت أجزاء منه، بالإضافة إلى المطار بعد حادثة احتجاز السفينة كارين إيه التى كانت تحمل أسلحة لإنزالها فى غزة أيام الرئيس الراحل ياسر عرفات، وهى الحادثة التى اتخذها الرئيس السابق جورج بوش حجة لإيقاف أى اتصال مع عرفات، معلناً أنه لم يعد يثق فيه، وبدأت عملية حصاره فى مقره فى مدينة رام الله بالضفة الغربية، وكانت المشكلة من وجهة نظر إسرائيل هى المياه الإقليمية المصرية الملاصقة لغزة، وكان مستحيلاً أن تتواجد قطعها البحرية فيها، فكان الاتفاق الأمنى بينها وبين أمريكا من وراء ظهر مصر بالتعاون فى مراقبة تهريب الأسلحة من البحر، مما يعنى تواجد قطع بحرية أمريكية فى المياه الإقليمية لمصر لمراقبة منطقة التقاء شاطئها بشاطئ غزة، وكذلك نشر قوات دولية على أراضيها فى الشريط الملاصق لحدود غزة لمنع التهريب عبر الأنفاق، أما كل ما قيل عن مراقبة الممرات البحرية والسفن العابرة فيها ويشتبه فى أنها تحمل أسلحة إلى حماس، فهى تغطية لاتهام مصر، لأننا لو افترضنا أن إيران هى التى سترسل أسلحة محملة على السفن، فإن خط سيرها سيكون من الخليج العربى إلى مضيق هرمز وباب المندب والبحر الأحمر إلى قناة السويس لإنزال الأسلحة، إما فى السويس أو بورسعيد، أو أثناء وقوفها فى منطقة البحيرات الواسعة، انتظاراً لمرور القافلة القادمة من بورسعيد إلى السويس، لتتجه ضمن القافلة الأخرى إلى بورسعيد للخروج للبحر الأبيض، لأنها لا يمكن أن تتجه بحمولتها إلى غزة مباشرة أو ميناء العريش، بالإضافة إلى شىء آخر أكثر أهمية، وهو أن إيران لو كانت تستخدم الأراضى أو المياه الإقليمية المصرية لتهريب السلاح إلى حماس، فأعتقد أنها كانت ستقوم بإبلاغ أمريكا أو إسرائيل بطريقة ما لضبط الشحنة لإحراج مصر واكتساب نقطة لديها، كما لا أعتقد أن عملية كهذه يمكن أن تقوم مصر بإشراك أطراف أخرى فيها، لأنها تعنى وصولها بالتأكيد لأجهزة مخابرات متعددة أولها الإسرائيلية والأمريكية، أيضاً يستحيل تصور أن تقوم سوريا أو حزب الله بالتهريب عبر البحر المتوسط إلى غزة، لأن السواحل اللبنانية محاصرة من سفن تابعة للاتحاد الأوروبى لمنع تهريب الأسلحة من البحر إلى حزب الله، أى أن كل الإجراءات والاتفاقات تستهدف مصر سواء جاءت فى عبارات ناعمة أو خشنة، وقد نشرت «المصرى اليوم» يوم السبت الماضى تصريحاً للمستشار الإعلامى والثقافى الأمريكى فى مصر هاينز ماهونى، أدلى به لزميلتنا فتحية الدخاخنى، قال فيه بالنص: «وقف تهريب السلاح ليس شرطاً لاستمرار المساعدات الأمريكية إلى مصر وأن الإدارة الأمريكية السابقة رفضت ربط المساعدات بموضوع التهريب، وإن كان من السابق لأوانه معرفة موقف إدارة أوباما من هذه المسألة». ولا أعرف إن كان هذا تهديداً مبطناً لمصر أم لا، لكنه واضح فى اتهامها بأنها الطرف المعنى بتهريب الأسلحة وهو ما ينفيه النظام وطبعاً لابد أن يفعل أى نظام ذلك.