على مدى التاريخ تفاوتت صورة العلاقات التى تقيمها الدول بعضها مع بعض، وكانت الصورة المثلى لها معاهدة متساوية لتحقيق المصالح المشتركة بفضل المزايا التى تتوفر فى كل واحدة ولا تتوفر للأخرى، وتيسير الدخول والخروج، وتنشيط التجارة، وأن تقوم العلاقة على أسس الزمالة فى الأسرة البشرية. ولكن للأسف قلما تحقق هذا، وما تحقق هو سلسلة من الحروب تشنها الدولة الأقوى على الدولة الأضعف، وعندما تنتصر عليها تستلحق أرضها أو تفرض عليها التزامات ثقيلة.. الخ، وبهذه الطريقة تكونت الإمبراطورية الرومانية، وغيرها من الإمبراطوريات. وشاهد العصر الحديث اقتسام أوروبا أقاليم وممالك القارة الآسيوية والإفريقية فى سباق استعمارى لم يدع فى القارتين دولة مستقلة، ونهبت الدول المستعمرة ثروات وأموال مستعمراتها وجعلتها أسواقا لمنتجاتها.. الخ. وعندما اكتشفت أمريكا انتقل إليها الألوف من المهاجرين الأوروبيين، خاصة من إنجلتراوفرنسا، وقام هؤلاء بإبادة السكان الأصليين - الذين أطلق عليهم الهنود الحمر - إبادة تامة بحيث لم يبق منهم إلا أفراد قلائل. وفى جنوب أفريقيا حدث شيء مثل هذا، إذ توالت هجرات البوير من هولندا، وبريطانيا عليها، وبعد أن فتكوا بمعظم سكانها احتفظوا بمن بقى ليقوم بالمهام القذرة، وحددت لهم أماكن إقامة منفصلة عن إقامة البيض، ومنعت منعًا باتاً أى صورة من مخالطتهم للأوروبيين البيض طبقاً لنظام «الأبارتيد». وقبل هؤلاء وجدت صورة أخرى عقب انتصار الصليبيين فى حربهم الأولى واستحواذهم على بيت المقدس، إذ أقامت جيوشها مملكة فى بيت المقدس، وإمارات فى الرها، وطرابلس. ويطلق المفكر الألمانى الكبير ازفالد شبنجلر على الأوضاع التى أدت إليها هذه السياسات لقب «التشكل الكاذب»:، وكأن التاريخ حاد عن طريقه بتأثير سياسات عارضة لا تمثل تطورًا سليمًا، وأن هذا التشكل الكاذب لا يمكن أن يستمر طويلاً. وكان جمال الأفغانى العدو اللدود للاستعمار البريطانى يقول: «إن الاستعمار عارية» وكأنه انتهى إلى ما انتهى إليه ازفالد شبنجلر. فمهما طال الاستعمار فمصيره إلى الفشل وسينتهى بأن تستقل الدول المستعمرة، وتتحرر من قيودها. وقد صدقت هذه النبوءات، فبعد أن سيطرت إنجلترا على الهند طوال مائتى سنة، تحررت الهند، ولم تعد الجوهرة الثمينة فى التاج البريطانى. وما حدث بالنسبة للجزائر أكثر دلالة، فقد احتلت فرنساالجزائر احتلالاً عمليًا بمعنى الكلمة، ونقلت مجموعات كثيفة من الفرنسيين وسلمتهم الأرض وقاموا بزراعتها، وحرمت التحدث باللغة العربية، وحولت أكبر مساجدها إلى كاتدرائية حتى نشأت أجيال كادت تجهل العربية، وتجهل الإسلام، ولكن الجذر الطبيعى كان أعظم من أن ينزوى أو يزول، فبعد مضى عشرات السنين ظهر على يدى عبد الحميد بن باديس مؤسس جمعية العلماء الذى جعل شعاره: شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب وثار شعب الجزائر لاسترداد عروبته، وإسلامه، واستقلاله، وحاولت فرنسا عندئذ إغراء الجزائريين بأنها ستعتبرهم فرنسيين كالفرنسيين وستكون الجزائر جزءًا من فرنسا، ولكن الجزائريين رفضوا هذا الشرف وأصروا، وحاولت فرنسا مقاومتهم بأشد الطرق وحشية حتى قتلوا مليون شهيد، ولكن الجزائريين واصلوا الكفاح حتى ظفروا بالاستقلال، وهم اليوم يطلبون من فرنسا أن تقدم اعتذاراً عن جرائمها فى الفترة الاستعمارية. وأعجب من هذا ما حدث فى جنوب أفريقيا، إن الإفريقيين السود الذين كانوا يعيشون حياة بدائية تقبلوها وتطابقت مع طبيعة أرضهم، بعد أن استبعدوا تمامًا واعتبروا طبقة وضيعة لا تستطيع أن ترفع عينها لعين السيد الأبيض، تيقظت وخرجت من الظلمات إلى النور، وثارت على سادتها البيض، وفى النهاية انتزعت منهم السيادة. على أن تاريخنا الإسلامى يقدم مثالاً أكثر فى الدلالة من كل الأمثلة السابقة، فقد دخل المسلمون أسبانيا بدعوة من بعض نبلائها المعارضين للملك، وفتحوا أسبانيا وأطلقوا عليها الأندلس، وظلوا فيها ثمانمائة سنة قامت خلالها حضارة رائعة تمثل تلاقى الثقافات والديانات والأجناس، وازدهرت الفنون والآداب، ولكن هذا كله لم يشفع لها، فقد ترك المسلمون منطقة كبيرة فى شمال البلاد لم يفتحوها، وفى هذه المنطقة قامت حركة لطرد العرب واستعادة أسبانيا لأوروبا، ونجحت هذه المجموعة فى تحقيق ذلك وساعدها عليه تفكك الإمارات العربية وأنها تحولت من الملك المركزى المستقر إلى دويلات الطوائف، وبعد 800 سنة من الوجود العربى الإسلامى سلم الملك عبد الله غرناطة إلى الملك فرديناند والملكة إيزابيلا ورفع الصليب، وأبيدت البقية المسلمة فى محاكم التفتيش وبمختلف صور التعذيب، وبهذا أهدرت ثمانمائة سنة كأن لم تكن. سقط الاستعمار الأوروبى فى أفريقيا، وفى آسيا، وسقطت الدويلات التى أقامها الصليبيون فى بيت المقدس، وعادت الجزائر عربية مسلمة، وأصبحت جنوب أفريقيا فى أيدى أبنائها، كما قضى على العرب فى الأندلس التى عادت إلى أسبانيا. ولكن إسرائيل أسوأ من كل الأمثلة السابقة. فهى دولة قامت على أساس رؤيا رآها إبراهيم فى منامه وعده إلهه فيها بأن يسلمه منطقة من الأرض لم يولد فيها إبراهيم أو أحد أبنائه الذين سيطلق عليهم بنو إسرائيل، ثم ظهر الرب مرة أخرى لكل نبى من أنبياء بنى إسرائيل يؤكد الرؤيا كأنها هى الشغل الشاغل لهذا الإله العجيب، وكأن هذه الأرض ليست مسكونة بشعوب وقبائل. وتلاقت هذه الرؤية مع المصالح الاستعمارية البريطانية التى كانت تريد أن تقحم فى صميم الوطن العربى دويلة دخيلة بحيث تحول عمليًا دون تحقيق أى وحدة، وهكذا صدر خطاب اللورد بلفور إلى الدكتور وايزمان يخطره بأن بريطانيا تقبل قيام وطن قومى لليهود فى فلسطين، على ألا يمس ذلك مصالح السكان العرب. لاحظ أن هذا الخطاب الذى اعتبر شهادة ميلاد الدولة، إنما نص على home وليس دولة، واشترط عدم المساس بمصالح السكان العرب. على أن السياسة البريطانية لم يكن يعنيها ذلك، لقد كان ما يعنيها هو قيام الدولة الفاصلة التى تحول دون قيام وحدة عربية متصلة، وهكذا عملت بكل جهودها، ودون نظر إلى مصالح السكان العرب لقيام إسرائيل. وتداعى اليهود من كل بقاع العالم لإقامة إسرائيل التى أصبحت دولة بالفعل فى عام 1948، ولجأت إلى ما لجأ إليه البوير فى جنوب أفريقيا، وفرنسا فى الجزائر، وأسوأ مما قاما به. وعندما أريد الاعتراف بها فى الأممالمتحدة جاء الاعتراف مشروطاً بالحفاظ على السكان العرب. بل لقد سلمت الأممالمتحدة وأصدرت قرارًا بأن الصهيونية صورة من صور العنصرية. ولكن كان لابد للرواية أن تمضى حتى تصل لنهايتها. ووثقت إسرائيل صلتها بالولاياتالمتحدة وأقنعتها أنها هى الدولة التى تحول دون انتشار الشيوعية فى المنطقة، كما اقتنع لفيف من المسيحيين بفكرة عودة المسيح بعد أن يتملك اليهود فلسطين ويقيموا الهيكل فى بيت المقدس فأيدوا إسرائيل للتعجيل بعودة المسيح. وفى النهاية ربطت ما بين مصيرها ومصير الولاياتالمتحدة، وبهذا مدت فى عمر حياتها الشقية، وضمنت حليفاً يناصرها ويتحدى المجتمع الدولى حتى عندما تجمع كل أصوات مجلس الأمن الأربعة عشر، ولكن أمريكا تقول «فيتو». ولكن إلى متى سيستمر هذا؟؟ لقد سقطت الشيوعية التى كانت إسرائيل تدعى أنها هى التى تحول دون انتشارها فى المنطقة العربية. وكسبت حماقاتها سخط العالم بأسره عليها، وآخرها جرائم غزة التى لم نسمع بها فى العصر الحديث. سيأتى الوقت - ربما أسرع مما نتصور - الذى ترى فيه الولاياتالمتحدة أن إسرائيل لم تعد كسبًا ودعمًا لمصالحها، ولكن عبء عليها وإفساد لمصالحها، وسترفع يدها عن دعمها وسيكون هذا بداية نهايتها لأنها قامت ضد التاريخ، وضد الجغرافيا، وضد إرادة المنطقة كلها، وغرست فى صميم المنطقة العربية الإسلامية مجموعة من أشتات العالم، لا تجانس بينها وبين المنطقة العربية، فكان ميلادها شذوذاً أو سفاحًا لابد أن ينتهى، وهى بعد سبعة ملايين من يهود بولندا وأوكرانيا ومختلف دول العالم وسط منطقة عربية مسلمة تضم قرابة مائتى مليون. وحتى لو كانت أكبر لما استمرت، فلن تستطيع أن تتحدى المصير، فالمصير للدول كالموت للأفراد لا يمكن تفاديه. ختام الكلام: كل يوم يمضى يظهر مع الأنقاض هول المجزرة. أرجوكم سجلوا كل شيء، نريد ألف كتاب أسود بكل اللغات حتى يعرف العالم حقيقة إسرائيل والهولوكوست النازى الذى مارسته فى غزة.