نجحت - إلى حد ما - وسائل الإعلام الرسمية وبعض «المستقلة» فى تجريف الثقافة المصرية الإنسانية فى الفترة الماضية، وبالتحديد منذ أن بدأت عملية الإبادة الصهيونية لغزةالفلسطينية. فكانت العملية مزدوجة: قتل هناك وتجريف هنا. كانت هناك عدة عوامل مساعدة لعملية التجريف، فالصور المتتالية على شاشات التليفزيون وتلك التى تتصدر الصحف لأطفال غارقين فى دمائهم أضفت على المشهد بأكمله «عادية» لا تتجاوز التعاطف مع أى طفل صغير، وقد كانت - ولا تزال - جميع الخطابات تركز على الأطفال فقط. بالتدريج تم محو سياق الاحتلال من العقول، فالتعاطف الذى يحصل عليه طفل برىء فى غزة هو نفس التعاطف الذى يحصل عليه طفل برىء يرقد فى مستشفى السرطان بالقاهرة. اختفت مصطلحات أساسية من قبيل «الصهيونية»، و«الاحتلال»، و«المقاومة»، لتحل محلها مصطلحات من قبيل «وقف إطلاق النار» دون تحديد للطرف الملزم بهذا، أو مثلا «الالتزام بالهدنة».. وغير ذلك من المفاهيم التى توحى بالوجود الحقيقى لطرفين لديهما نفس الآلة العسكرية ونفس القوة الغاشمة، بالإضافة إلى الإيحاء بأن هناك شيئا مقدساً لدى الصهاينة قد تم التعدى عليه وهو ما أدى بالتالى إلى محو فكرة الأرض المحتلة من عقل المتلقى لتلك الصور والخطابات على مدار ما يقارب الشهر الآن. وعبر إلقاء اللوم المستمر على حماس - وهو ما تم عبر تحليلات سياسية «رفيعة المستوى» ومدربة على تمرير السم فى العسل- تحولت فلسطينالمحتلة إلى غزة والتى تقلصت بدورها إلى حماس لترتفع راية الفزاعة الدينية، فلا يجزع العقل المصرى من شرعية إبادة «حماس». ومن ناحية أخرى، تم اللعب بمهارة على قدرة العقل المصرى فى التخييل، لتتناثر شائعات مدروسة بعناية عن نية حماس فى احتلال سيناء وسرقة أموال المصريين!! تنتشر هذه الشائعات كالنار فى الهشيم بين جموع المصريين وتذكيها وسائل الإعلام حتى يصل العقل إلى القبول الكامل للقتل دون أن يتذكر حرفا واحدا من كارثة الاحتلال والاستيطان الصهيونى. ولأن كل سلطة تفرز فوراً أحد أشكال المقاومة فإن محو سلطة الاحتلال يتبعه محو الإدراك لأهمية شأن المقاومة، تلك المقاومة التى يرفضها الكثيرون علنا - بتمكن واضح من المنطق السياسى «النخبوى» - لمجرد أنها تستند على خلفية أيديولوجية عقائدية، وكأن هناك بدائل أخرى كثيرة. أدت كل هذه العوامل المدروسة بعناية إلى إحدى أخطر النتائج، فالمصرى الذى يشفق على الأطفال «الأبرياء» ويمتعض من اغتيالهم استنادًا على خلفية دينية لا يمانع إطلاقا من إظهار اللامبالاة تجاه إبادة فصيل سياسى يراه «خاطئاً» و«مخطئاً»، هكذا تتجزأ الخلفية الدينية فتبيح القتل حينا وترفضه أحيانا أخرى، رغم أن القتل مجرم فى التوراة والإنجيل والقرآن، إلا أن تجريف العقول يفعل أكثر من ذلك. فإذا كان سياق الاحتلال تحول إلى «موضة» قديمة تنتمى للزمن الغابر فلا بأس أن يتحول القتل إلى فكرة انتقائية لينهار الركن الأساسى فى منظومة حقوق الانسان بأكملها والذى يشترط مناهضة جميع أشكال الانتهاك أيا كان الانتماء السياسى، (ويبدو أن المثقفين قد نسوا أن أحد جوانب الاعتزاز الشديد بالراحل نبيل الهلالى كان دفاعه عن الجميع بغض النظر عن الانتماءات السياسية). وهى المنظومة التى تدافع عنها الدولة فى عدة أشكال منها على سبيل المثال الاعتراض على تقارير حقوق الإنسان الدولية التى ترد عن مصر وعن معتقلاتها. هكذا بضربة واحدة وعلى مدار زمنى لم يزد حتى الآن على شهر واحد تجلى النجاح الرسمى فى محو الاحتلال من العقول وتدمير ثقافة حقوق الإنسان ومعها ثقافة المقاومة واختزال فلسطينالمحتلة إلى فصيل سياسى. بالأمس وأنا أفعل ما يفعله الجميع- مشاهدة قناة الجزيرة - أتيحت لى فرصة الاستماع للطبيب المصرى الدكتور محمد غنيم الذى توجه إلى غزة مع وفد أطباء عربى، وكان يدلى بشهادته عن أحدث أنواع القنابل التى تم تجريبها على الفلسطينيين واسمها المختصر «دايم»، أى تلك القنابل التى تسبب انفجاراً معدنياً داخلياً كثيفاً، وهى القنابل التى تؤدى إلى البتر الكامل للأطراف. ألا يمكن لمثل تلك المعلومات أن تنقذ العقل المصرى من عملية التجريف المكثفة التى تمارس عليه يوميا؟