لا أدري شخصيا سببا واحدا لشيوع اسم لوحة زهرة الخشخاش التي صورها فان جوخ الهولندي وسرقها شخص مجهول حتي الآن من متحف محمود خليل, بينما يوجد في اللوحة أزهار خشخاش عدة ومن ثم فإن اسمها الحقيقي هو لوحة أزهار الخشخاش كما أكد لي الدكتور وحيد القلش مدير إدارة المقتنيات الفنية بالأهرام. ولكن الاختلاف في الاسم ما بين الحقيقي والشائع يعكس وجها للموضوع يختلف كثيرا عن الوجه الشائع حتي الآن لتناول المسألة والذي يقوم علي الجريمة نفسها أو حادث السرقة والمسئولية عنها وكل ما يصاحب ذلك من ملابسات الدخول والخروج من المتحف, ومدي درجة التأمين القائمة, وعما إذا كانت كاميرات المراقبة تعمل أو لا تعمل, وعما إذا كانت وزارة الثقافة وفرت أو لم توفر الأموال اللازمة لحماية ثروة قومية. والحقيقة أن ما جري ليس جديدا بالمرة فقد حدث في مصر وخارجها مثل هذه السرقات من قبل, فقد تعرضت بعض اللوحات الفنية لحوادث سرقة في الأعوام القليلة الماضية, حيث سرقت لوحتان من دار الأوبرا للفنان حامد ندا في سبتمبر2008, لكن تمت إعادتهما. كما سرقت تسع لوحات أثرية ترجع لعهد أسرة محمد علي باشا في مارس2009 من قصر محمد علي بمنطقة شبرا الخيمة, ثم عثر عليها بعد عشرة أيام من الحادث. ولم تكن سرقة لوحة الخشخاش هي الأولي من نوعها حيث تعرضت اللوحة لعملية سرقة غامضة في عام1978, وتمت إعادتها بعدها بقليل إلي المتحف, لدرجة أن البعض فسر هذه السرقة علي أنها للوحة المقلدة وليست اللوحة الأصلية. وبعد مرور عشر سنوات, أثيرت حول لوحة زهرة الخشخاش ضجة كبيرة في عام1988 حين أعلن الكاتب المصري يوسف إدريس في مقال له بعنوان بالعين المجردة في صحيفة الأهرام أن اللوحة الموجودة بالمتحف مزيفة, وأن النسخة الأصلية قد تم بيعها في إحدي أكبر صالات المزادات بلندن بمبلغ43 مليون دولار. وقبل كل ذلك فقد جرت سرقات هائلة من الآثار المصرية كانت كلها لقيمتها التاريخية والفنية أيضا, ووصلت أحيانا إلي فصل جداريات كاملة ومحاولة تصديرها إلي الخارج. في خارج مصر جرت سرقات المتاحف الكبري بطرق شتي تم تصويرها في أفلام شهيرة, ولعل الكبار منا يذكرون ذلك الفيلم الشهير لبيتر أتول وأودي هيبورن عن كيف تسرق المليون؟ حول سرقة أحد الأعمال الفنية. ولكن كل هذه الإثارة حول عمليات السرقة لا ينبغي لها أن تخفي عنا وجوها أخري للمسألة قد لا تكون الأكثر أهمية. صحيح أن الوجه الشائع مثير ولا شك, وتبادل الاتهامات والوثائق بين وزير الثقافة والمسئول عن المتحف فيه قدر غير قليل من الإثارة والأسي, وهو مناسبة علي أي حال تلقي حجرا في مياه الإعلام الراكدة التي انتهت تقريبا من مناقشة مسلسلات رمضان كلها حتي قبل انتهائها, وهي تعيد الناس للسياسة مع لمسة بوليسية حريفة. إلا أن المسألة في جوهرها تذكر بعلاقة المصريين بالفن عموما, وهذه النوعية من الفن بشكل خاص. ولا أدري شخصيا عدد المصريين الذين شاهدوا اللوحة, وما العدد منهم الذي أصابته تلك الرجفة التي يتحدث عنها الفنانون عند الحديث عن الأعمال التعبيرية بوجه عام, وأعمال فان جوخ بوجه خاص. وبالنسبة لي شخصيا فقد أصبت بمثل هذه الحالة من الانفعال النفسي والعضوي عند مشاهدة واحدة من أعمال الرجل في متحف فلادلفيا للفن الحديث, وعند مشاهدة واحدة من أعمال ماتيس الكبري في واحدة من قاعات الفن في لاهاي بهولندا. ولكن حالتي ربما لا تهم أحدا, ولا أدري عما إذا كانت هناك حالات مماثلة في مصر أم أن الموضوع كله, مع مدي الخسارة فيه خمسون مليون دولار أو أكثر ليست بالكمية القليلة من الأموال خاصة لو نظرت لها من زاوية العملة المصرية لا يهم كثيرا المصريين. ما أطرحه هنا علي الوجه التالي: مع كل التقدير لفداحة الخطب في سرقة لوحة أزهار الخشخاش, فإن الخطب الأكبر هو السرقة الكبري للروح الفنية لدي المصريين التي تمت من خلال عملية تجريف مستمرة للجمال والحس الرفيع علي مدي العقود الماضية حتي إن عدد زوار المتحف يوم السرقة العظمي كان أحد عشر فردا كلهم من جنسيات أجنبية ولم يكن بينهم مصري واحد. تعالوا هنا نراجع الخطب الأكبر من منظور تاريخي يشهد بأن المصريين كانوا دوما بنائين وفنانين في آن واحد, ولم تكن المعابد ولا الكنائس ولا الجوامع ولا القصور أبدا مجرد وظائف عملية أو روحية, ولكن كان فيها دوما لمسات الروح والتسامي التي تربط الأرض بالسماء. ومنذ منتصف القرن التاسع عشر تكونت لدي مصر ثروة فنية طائلة بالمعنيين الفني والاقتصادي للكلمة عندما جاء إلي مصر بفضل الأسرة العلوية وأتباعها مهندسون وفنانون أوروبيون نقلوا الثقافة والإحساس الرفيع بالفن الحديث إلي مصر ونخبتها الثقافية والاقتصادية التي بدأت في الخروج من العباءة العثمانية مع مطلع القرن العشرين. ومع نمو الاتجاه جاءت معه فضيلة الاقتناء لأفضل وأرقي الأعمال الفنية التي عرفتها أوروبا; وهذه تبعا للتقاليد التي تعرفها أوروبا أيضا صارت متاحف خاصة تحمل أسماء أصحابها. الفكرة هنا أن الأعمال الفنية العظيمة هي جزء من التراث الإنساني توهب للبشرية كلها حتي تتغذي وتترقي بها ويرتفع فيها الإنسان فوق غرائزه وأفكاره الشريرة. وهكذا, وعلي مدي قرن تقريبا صارت مصر الفقيرة, والمستعمرة أيضا, واحدة من الدول الغنية بمجموعات فنية نادرة. ما الذي جري لهذه الثروة ربما يحتاج تحريرا خاصا, أو بحثا يتحري ما جري من أول الثروات الفنية لقصور أسرة محمد علي حتي ما حدث للوحة أزهار الخشخاش. وللحق ورغم حادث السرقة فإنه جرت جهود كبيرة خلال السنوات الأخيرة لإنشاء المتاحف وتجميع وعرض هذه الثروة الفنية, ولكن النفس والعين المصرية كانت قد تغيرتا, فلم تعد المباني والمنشآت الحكومية تعرف الجمال المعماري, ولا فضيلة اقتناء الأعمال الفنية سواء لمصريين أو أجانب. ويشكل ما جري نوع من الاتفاق السري علي منع التماثيل والأعمال الفنية التصويرية من دخول مجمعات الدولة. وسرعان ما حل محل الفكر الجمالي أنواع من الفن الإسلامي الذي لم يكن فنا لأنه لا يعتمد علي انطلاق تلقائية الفنان وذاتيته, وإنما كان أقرب إلي الصناعة; ولا إسلاميا لأنه لم يعط الرسالة المقدسة طابعا فنيا خاصا يعبر عما فيها من حلال وسماحة مقتصرا فقط علي ما فيها من عبارات مع تزيينها بصناعة الأرابيسك الشائعة التي تحيط بأسماء الله الحسني حتي باتت أداة تعليمية أكثر مما هي فن يجذب القلوب ويرهف الوجدان. واستكملت السياسات العامة النظر إلي الفنون بنفس الطريقة, ومرت عقود دون أن يضاف إلي الحواضر المصرية تمثال واحد حتي جاءت السنوات الأخيرة ببعض التحسن الذي جاء علي مضض ووسط احتجاجات هامسة تشير من طرف خفي إلي مدي ما في الموضوع من شبهة الحرام والخلط ما بين الذكري والصنم. وبعد التجريف الحكومي جرت عملية التجريف العقلي في التعليم, وبعد أن كان التذوق الفني جزءا من دروس الرسم وحصص الأشغال فقد صار الموضوع كله وسط مدارس تعمل لثلاث فترات أكبر من طاقتها بكثير فتجد أن الاستغناء عن ذلك كله نوع من الفطنة. وهكذا تواردت علي المدارس كلها ثقافة تنظر إلي الفن كما لو أنه مجرد استكمال للصورة الحضارية وليس جوهرها, أما إذا كان ضروريا فيكون ذلك للتعبير عن أعمال البطولة والفداء. وعندما يتحول الفن إلي أداة تعبوية للشحذ علي النضال لا يبقي الكثير الذي يقال عن دور الفن في الحياة. ولكن التجريف لم يكن كله عاما وله علاقة بالحكومة, ولكنه أيضا تسلل إلي الطبقة الثقافية والاقتصادية في البلاد; فبالنسبة لتلك الثقافة فإنها سرعان ما تخلصت أو قلصت من المساحات المخصصة للأعمال الفنية وتقديرها وتقييمها, وما تبقي منها لم يزد علي كونه رصيدا احتياطيا يتم التضحية به عند أول حدث يتطلب مساحة في الصحافة المطبوعة أو وقتا في الصحافة المرئية والمسموعة. أما النخبة الاقتصادية فقد توقفت بدورها عن الاقتناء, وفيما عدا عدد محدود من رجال الاستثمار في مصر فإن موهبة الاقتناء تكاد تختفي من مجموعة الاستثمار الجديدة, وفي كل الأحوال فإن أحدا منهم لم يحول مجموعته الخاصة إلي متحف. والحقيقة أنه ربما لا يوجد سوي رجل استثمار واحد لديه مثل هذه المجموعة الصالحة للتحول إلي متحف خاص وحولها إلي كتاب بالفعل عن الأعمال الفنية الكبري الخاصة بمصر والشرق في العالم وهو السيد شفيق جبر. وببساطة فإن محمود خليل وأمثاله في النصف الأول من القرن العشرين لا يوجد من يماثلهم في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. الخلاصة واضحة وهي أن سرقة لوحة زهرة أو أزهار الخشخاش هي كارثة ولا شك, ولكن الكارثة الأكبر أنه قد جرت سرقة كل الأزهار من العقلية المصرية. وإذا كانت الاستعادة في الحالة الأولي سوف تشارك فيها أجهزة أمنية عديدة, فإن استعادة الثانية ربما تحتاج جهد المجتمع والحكومة معا. وببساطة فإن أشكال الغلظة في السلوك, والفظاظة في الحديث, وضعف الذوق العام, تعود في بعض منها علي الأقل لغياب الجمال والذوق الفني من حياتنا. وربما آن الأوان لكي يدخل إلي جدول أعمالنا مرة أخري.