تكلمت فى مقال سابق عن أزمة التعددية فى مصر.. وهى أزمة يجب التعامل معها بكل جدية، نظرا لوجود التشرذم الاجتماعى العميق فى ظل التباين الرهيب فى نسب الدخل والثقافة والتعليم داخل المجتمع المصرى، وغياب نظام يمثل معظم فئات المجتمع.. وفى نفس الوقت الذى يشكو فيه الكثير من مشاكل لا لها أول ولا آخر يتصور البعض أن البلاد من الممكن أن تدخل حربا من أجل غزة. صحيح أن الهجوم الإسرائيلى غير مبرر فى شراسته ودمويتة، لكن يمكن تصور مثلا ماذا كان من الممكن أن يحدث إذا كان رد فعل مصر بعد انسحاب إسرائيل من سيناء هو ترك فصائل معينة لكى تطلق الصواريخ عليها.. وما لم نفعله من قبل لا يجب القدوم عليه الآن. لا يجب التورط فى عبثيات الآخرين. إن الحرب يمكن أن توحد الأمم، لكنها عادة ما توحدها فى الاتجاه الخطأ (وذلك ينطبق على إسرائيل نفسها بالطبع).. أما مقومات الوحدة الحقيقية فهى كامنة فى الحوار الحر والانتماء الشعبى النابع من اقتناع الناس بالنظامين الاجتماعى والسياسى اللذين يمثلانهم.. لذلك عادة ما تنتصر الديمقراطيات الحقيقية حتى فى الحروب. تكلمت أيضا عن بعض تحديات وتداعيات الأزمة العالمية الاقتصادية الحالية، وأشرت عن ظاهرة صعود ألمانيا النازية الذى تزامن (وليس بالمصادفة) مع أزمة الثلاثينيات الاقتصادية.. وهى الحركة التى وحدت ألمانيا فى سياق فكرى عبثى، ثم دمرتها بعد حرب ضارية، كان من ضمن حيثياتها لدى النازى إنقاذ أقليات «الأمة الألمانية» المنتشرة فى شرق أوروبا من الاضطهاد. يظن الكثيرون أن النازيين أتوا للسلطة فى ظل نظام ديمقراطى كامل، لكن ذلك الكلام ليس دقيقاً.. فالنازيون صعدوا فى ظل أحكام شبه عرفية، فى ظل ما يسمى الآن قوانين الطوارئ والفرمانات الرئاسية.. فمنذ فترة قبل صعود النازى كانت هناك عدة إجراءات تحجر حرية الصحافة والممارسة السياسية فى ألمانيا (ويمكن الرجوع لكتاب ريتشارد إيفانز عن صعود الرايخ الثالث للتأكد).. ثم كان هناك ايضا رئيس عجوز، بطل حرب العالمية الأولى «هيندنبورج»، الذى كان بدأ فى ال«تخريف» للأسف، وكان له القرار النهائى لتولى هتلر الحكم.. وهيندنبورج، رغم فطرته التى كانت ضد أن يتولى «الشاوش الآتى من النمسا» السلطة فى ألمانيا، أقنعه بعكس ذلك حفنة من المنتفعين من حوله، الرافضين للنظام الديمقراطى والتعددية من الأصل، الذين كانوا يعتقدون أن هتلر أحسن طريقة لتدمير النظام الليبرالى للجمهورية ال«فايمار».. وكان على رأس هؤلاء ابن هيندنبورج نفسه. كيف يمكن أن يفيدنا ذلك الكلام فى سياق الوضع الحالى فى مصر؟ يوجد الآن غضب عارم على الأوضاع العامة بالبلاد، وأيضا ركود سياسى فيه وجه من الشبه بما كان يحدث فى ألمانيا فى بداية الثلاثينيات.. وهناك أيضا تيارات سياسية مهمة على الساحة رافضة التعددية والسلام، من يرى فى اتفاقية كامب ديفيد نسخة من اتفاقية فرساى «المهينة»، التى وعد النازى بإلغائها.. كانت مثل هذه العوامل من ضمن أسباب انهيار جمهورية ال«فايمار»، بليبراليتها المنقوصة، رغم كل إنجازاتها العلمية والثقافية العظيمة، فما بالك بما يمكن أن يكون الحال عندنا فى مثل نفس الظروف؟ لا أحد يأخذ أى شىء بجدية هذه الأيام فى مصر، لكننا مقبلون على مرحلة جدية للغاية. الآن يطلع علينا فى هذه الأيام العصيبة - مستغلا الضعف السياسى المصرى النابع من مشاكل عميقة وقيادة سياسية عقيمة - من يلوح بفكرة دخول مصر، فى هذه الظروف بالذات، فى صراعات خارجية لا يمكن كسبها. فليكن إنه فى استطاعة الجيش المصرى هزيمة إسرائيل نهائيا، وتحرير كل أراضيها من أجل الفلسطينيين.. هل مع ذلك يمكن أن يستطيع تفريغ سكانها اليهود أو إخضاعهم لسلطة عسكرية مصرية؟ هل نريد احتلال ستة ملايين يهودى - بافتراض أيضا أن المجتمع الدولى سيسمح بذلك كما كان الحال فى 1948 فإن المطالبة بالحرب الآن عبثية وغير محسوبة، ولا معنى لها. ومن لا يتعلم من التاريخ يعد نفس الأخطاء.. وفى كل مرة تكون أبشع وأفظع، مادام الهدف غير محدد، لاعقلانى ولا شعورى. الهدف الأول بالنسبة لمصر يجب أن يكون منع التدهور حتى يصل للانهيار الداخلى.. والسبيل هو وضع موضوع دخول صراع غزة أخيراً فى سجل أولوياتنا. ليس لأنه موضوع غزة غير مهم بالنسبة لأمننا القومى، لكن لأن أمننا القومى يتطلب الحذر والعقلانية فى هذه المرحلة.. فلا يجب الهروب من مشاكلنا عبثيا «للأمام»، إلى المجهول الفطرى.