تستغرق الرحلة من مدينة الشروق، حيث أعمل، ووسط القاهرة، حيث أسكن، أكثر من ساعة فى معظم الأحيان، فتمثل فرصة للتأمل فى الواقع المصرى الحالى.. تبدأ الرحلة معظم الأحيان بطريق السويس، الذى يشبه ظاهريا الطرق السريعة فى البلدان الصناعية الكبيرة، لكن الفوضى المرورية فيه- من تعدية من حارة الركن إلى ظاهرة ال«غرز» على ??? كم فى الساعة - تؤكد أنه «مصرى مائة بالمائة».. بعد نهاية طريق السويس هناك عدة خيارات للوصول لوسط القاهرة، منها سلك مسار يمر بمصر الجديدة.. بميدان روكسى، حيث المبانى القديمة الممثلة لبقايا بلد قد اختفى ونسف من ذاكره الأمة. حيث تنتشر المبانى ذات الطراز الأوروبى المتميز، المبهر للعين، تحت إضاءة أنوار الشارع الصفراء المسلطة، المعمار الذى يشير للعصر الذهبى لمصر اللليبرالية. . وبعد ميدان روكسى هناك «كوبرى 6 أكتوبر»، الذى يطفو فوق المزيد من بقايا القاهرة التى تلاشت، بما فيها من كنائس ومدارس رهبانية وحوارى كان يسكنها ممثلو معظم ملل العالم الشرق أوسطى والأوروبى فيما مضى. فى أحيان أخرى اتخذ الطريق الدائرى، وفى معظم الأوقات أسلك الاتجاه الذى يؤدى فى النهاية لمخرج البحر الأعظم بالجيزة، الذى يمر بمدن جديدة، مبنية على طراز ضواحى مدينة لوس أنجلوس، تسكن فيها النخبة المصرية.. ووسط أسماء جذابة، كمدينة السراب «ميراج» وقطامية «هايتس»، مرورا ال«مولز» الفاخرة، ولولا بعض «مطبات» الطريق العميقة وتجاعيد الأسفلت العنيفة، قد يتصور المرء أنه فعلا فى أمريكا.. لكن أحيانا، حين تأخذنى مثل هذه التأملات بعيدا، أخطئ وأتوه وأخرج من المخرج المؤدى لاتجاه معاكس، يسير خلال نصف الدائرة الآخر من الطريق، الذى يعبر عن صورة مغايرة تماما للوضع المصرى. ففى نهاية اليوم، بالذات إذا كان هذا اليوم يوم خميس، تسود الفوضى المطلقة على الطريق.. ونلاحظ عشرات من ال«ميكروباصات» والمقطورات المحملة بالبترول والحديد والخشب والحيوانات والبشر المتحركة فى وسط الطريق السريع، فى سيمفونية من الكلاكسات مستوحاة من الموسيقى الكلاسيكية المعاصرة، فى رقصة موت تجسد مأساة العامل المصرى.. فى مخارج مؤدية للمدن والضواحى الفقيرة البائسة الملاصقة، حيث يلتحم الريف المصرى ويتلاصق مع أنوار المدينة، التى فقدت تمدنها وبريقها فصارت كالقرية العشوائية العملاقة. السؤال الذى يتردد فى ذهنى خلال رحلاتى شبه اليومية هو دائما: أين هى مصر ال«حقيقية»، ومن يملكها؟ هل هى فى العشوائيات والريف الملاصق، أم فى أحياء مصر الجديدة - القديمة، أم فى ال«قطامية هايتس»، أم فى الأماكن التى يمر من فوقها كوبرى أكتوبر، أحياء مصرالليبرالية التى اختفت؟ الرد المباشر البسيط هو بالطبع أن كل هذه الأماكن هى مصر.. لكن كيف يمكن لبلد أن يكون موحدا، وأن يتحمل ذلك التباين الرهيب - ليس فقط المستوى المادى لكن أيضا ثقافيا، الذى يرتبط فى كثير من الأحيان بتفاوت ثقافى عميق وتغير فى الرؤية للعالم - فى ظل نظام سياسى وحدوى، شبه شمولى، لا يمثل إلا فئة صغيرة من سكانه، ولا يشعر الكثير من مواطنيه بالانتماء أو الارتباط به، مما ينطبق بالذات على أعضاء تلك الكتلة البشرية الهائلة، المنتمية لطبقة العمال الفقيرة، فى الريف وعشوائيات المدن، والتى يترنح ممثلوها فى رقصة موت على الأسفلت، وسط الطريق الدائرى، انتظارا لل«ميكروباص». السؤال الآخر هو: إذا كان الحال هكذا فى ظل الظروف الناتجة عن حالة السنوات الماضية، التى اتسمت بالنمو الاقتصادى العام الملحوظ، كيف سيكون الحال إذا أثرت الأزمة الاقتصادية العالمية جديا على الأسواق فى مصر؟ تاريخيا، هناك ما يشير لما يمكن أن يحدث فى هذه الحالة.. ففى العشرينيات مثلا كانت هناك أيضا نهضة اقتصادية وليدة بالبلاد، وكانت هناك نفس حالة التفكك الاجتماعى، والاستقطاب والتباين الواضح بين الريف المحافظ الفقير والمدينة بأحيائها الثرية المتعددة الجنسيات والثقافات. ثم أدت الأزمة المالية فى الثلاثينيات لحالة ركود وخيبة أمل كان من ضمن نتائجها انتشار التيارات الراديكالية المعادية للتعددية والنظام البرلمانى، كحركة مصر الفتاة والإخوان المسلمين، والتى نشأ سياسيا خلالها الكثير من النخب (ومنها أغلب أعضاء الضباط الأحرار) التى أطاحت بمصر الليبرالية فيما بعد.. ولم تقتصر تداعيات أزمة الثلاثينيات المدمرة على دول نامية مثل مصر، إنما انعكست أيضا على بلاد مثل ألمانيا، وكانت من أهم أسباب صعود ال«نازى» هناك. أعتقد أن فى ذلك دروساً سياسية مهمة يجب أخذها فى الاعتبار خلال الفتره القادمة.. للحديث بقية. ac.otnorotu.atic@rma