اسمحوا لى بأن نحاول معًا التحليق المرتفع لننظر بعين الطائر إلى مشهد المنطقة من أعلى فنرى صورتها الإجمالية متكاملة ثم نركز على القطاعات التى تمدنا بدروس نافعة ليس فقط فى مصر بل أيضًا فى جميع ربوع الخريطة الممتدة من الأراضى الإيرانية حتى الأراضى المغربية. دعونا إذن نرصد اللقطات من أعلى: أولاً: لقطة غائرة فى خريطة المنطقة عمرها ستون عامًا تبين مشاهد الذروة فى مخطط القوى الغربية الاستعمارية لزرع إسرائيل فى المفصل البرى الواصل بين المشرق العربى والمغرب العربى وتقطع التواصل الجغرافى بين مصر والجزيرة العربية والشام. مشاهد الذروة التى تلتقطها العيون المحلقة من علٍ تشبه المشاهد الجارية اليوم فى غزة، مجازر للمدنيين العرب العزل وشهوة قتل همجية وأطماع صهيونية لقضم الأرض العربية ومظلة دولية تحمى العدوان وتوفر له الشرعية ليكرس التمزق فى الخريطة العربية. ثانيًا: لقطة بارزة حديثة نسبيًا تكشف وجود محورين فى المعسكر العربى الإسلامى، الأول محور طهران وسوريا وحزب اللّه وحركة حماس والثانى محور يضم سائر الدول العربية فى مقدمته مصر والسعودية. القيادة فى المحور الأول لإيران التى خرجت ظافرة من معركتها مع إدارة بوش فى الملف النووى وفى ملف التواجد الفاعل فى الجنوب العراقى الشيعى وفى ملف المواجهة العسكرية مع إسرائيل عبر حزب اللّه عام 2006، وفى ملف نشر نفوذها عبر نشر المذهب الشيعى فى الدول السنية وهى تسعى اليوم لتقليص دور مصر فى الساحة الفلسطينية طامعة أن تأخذ دورها فى غزة وأن تحسب المقاومة هناك فى رصيدها وتخصمه من رصيد مصر من خلال شن حملة نقدية على الحكومة المصرية عبر أبواقها. ثالثًا: لقطة قديمة عميقة تظهر متشابهة فى جميع المجتمعات العربية يظهر فيها معسكران غريمان تاريخيان من أبناء الوطن العربى الواحد يتواجهان بالسلاح ويضمر كل منهما للآخر نية السحق والإبادة، الأول هو النظم الحاكمة، والثانى هو المعارضة الإسلامية، اللقطة تكشف أن هناك فروقًا فكرية بين المعسكرين الغريمين حول طبيعة الحكم ومصادره وهى فروق تلازمها حالة صراع دامية على مقاعد السلطة على دورات تتخللها فترات تهدئة مؤقتة لالتقاط الأنفاس منذ قرون بعيدة. نلاحظ فى هذه اللقطة أن هذين الغريمين التقليديين قد توصلا إلى حل التقسيم الإقليمى فى الحالة الفلسطينية فاستقلت المعارضة الإسلامية - أى حماس - بحكم غزة وطردت من القطاع رموز السلطة التى يقودها محمود عباس وتركت له الضفة ليحكمها، هذه اللقطة، أيها السادة، شديدة الأثر فى الصراع التاريخى بين المعسكرين الغريمين على اتساع الخريطة العربية. فالحكومات العربية جميعًا تقف ضد حماس وإمارتها فيما عدا سوريا لأسباب تحالفها مع طهران وليس لأنها تقبل الحكم الإسلامى فسوريا مشهورة بتجربتها فى سحق الإسلاميين بالدبابات واستئصال شأفة الإخوان المسلمين فى مذابح حمص وحماة الشهيرة. مرة أخرى هذه اللقطة شديدة الأهمية ولنتأملها جيدًا حيث سنكتشف أن الحكومة المصرية رغم صراعها التاريخى مع المعارضة الإسلامية ورغم قلقها من نجاح حماس فى إقامة إمارة إسلامية على حدودها ظلت تحاول جاهدة أن توفق بين سلطة محمود عباس من ناحية وحكومة حماس من ناحية أخرى. ترى هل يخالفنى أحد إذا ما تصورت أن الدافع المصرى للتوفيق هنا ينبع من اعتبارات الأمن القومى لمصر التى ترى فى غزة والضفة إقليمًا يجب أن يكون موحدًا باعتباره إقليم الدولة الفلسطينية المستقلة التى تسعى مصر لتحقيقها على الأرض الملاصقة للحدود المصرية؟ هل سيخالفنى أحد إذن إذا ما ذهبت إلى أن حكومة مصر قد قدمت نموذجًا جديدًا للتوفيق بين المعسكرين الغريمين فى الساحة الفلسطينية بالحاحها على جهود المصالحة الوطنية الفلسطينية؟ رابعًا: لقطة حديثة جدًا تكشف جهدًا مصريًا مكثفًا للتوصل إلى تهدئة بين إمارة حماس الإسلامية وبين إسرائيل وهو جهد أنجب اتفاقية دامت لمدة ستة شهور استطاعت إمارة حماس فيها أن تحفر أكثر من سبعمائة نفق بين رفح المصرية والفلسطينية، حسب التقديرات الإسرائيلية، واستخدمت هذه الأنفاق فى تزويد المقاتلين بصواريخ جراد الروسية التى تحمل رؤوسًا متفجرة بين 50 و70 كيلوجرامًا والتى تستطيع بلوغ مدى يزيد على ستين كيلومترًا. ركزوا معى على هذه اللقطة يا أولى الألباب. لقد تهجمت وزيرة خارجية إسرائيل ليفنى على مصر ورئيسها ووجهت لهما اتهامًا بتمكين حماس من حفر الأنفاق وتهريب الصواريخ وانتهت الأزمة عندما عرضت الولاياتالمتحدة تزويد مصر بأجهزة لكشف الأنفاق، مرة أخرى ركزوا معى يا أولى الألباب، فاللقطة الجديدة تؤكد وجود الأنفاق وتظهر الطائرات الإسرائيلية وهى تحاول تدميرها فى إطار عدوانها على غزة بقنابل الأعماق أى أن الأنفاق ظلت باقية لتمد حماس بالعتاد وصواريخ جراد طبقًا للتقارير الإسرائيلية التى تُحمّل مصر المسؤولية عن ذلك. خامسًا: لقطة حديثة داخل الساحة الإسرائيلية تظهر التحام الصفوف من جانب جميع الأحزاب والقوى السياسية خلف الحكومة وقت المعركة، ركزوا معى يا أولى الفطنة والحكمة، لتروا أن الأحزاب الدينية التى تؤمن بأن دستور إسرائيل يجب أن يكون التوراة وشريعتها تنضوى تحت قيادة العلمانى الذى يؤمن بفصل الدين عن الدولة لحظة الخطر، لاحظوا أن المعركة الانتخابية قد تجمدت كل أشكال الدعاية فيها رغم أن موعد الانتخابات هو العاشر من فبراير وأن نتنياهو الطامع فى السلطة قد أعلن وقوفه خلف رئيس الحكومة المتهم بالفساد - أولمرت - مادامت كانت هناك معركة مع العدو. هل يمكن هنا أن نتعلم درسًا من أعدائنا يتصل بتجميد التناقضات الداخلية فى مواجهة التناقض الخارجى وأن نبحث عن المشتركات بيننا لا أن نعمق الخلافات وقت الخطر؟ سادسًا: لقطة حديثة تسجل أسلوب الخداع الإسرائيلى مع زيارة ليفنى للقاهرة وإعلانها عن قرب المواجهة لتعطى انطباعًا زائفًا بالتواطؤ المصرى ثم تتعثر عمدًا لتقطف صورة لرجل شرقى جنتلمان يمد يده ليقيلها من عثرتها وفى نفس الوقت يزور أولمرت تركيا ويقوم بنفس الخديعة. وبالطبع يستثمر خصوم الحكومتين المصرية والتركية الخديعة ويفسحون لها المجال لتنجح. سابعًا: لقطة يعلن فيها نائب وزير الحرب الإسرائيلى أن الغارات قد نجحت على مدى أسبوع فى تدمير ثلثى مخزون الصواريخ الفلسطينية فى غزة، ولنلاحظ أن اللقطة تظهر تساقط الصواريخ الفلسطينية بعد الإعلان فى بئر سبع وأشدود وسديروت وأشكلون، كما تظهر بلدية تل أبيب تجهز خنادق ومخابئ توقعًا لوصول صواريخ فلسطينية. أعزائى القراء أثق فى ذكائكم السياسى وأترك لكم مهمة استخلاص الدروس من اللقطات، وإضافة دروس أخرى. فى ضوء الهجوم البرى المدجج بالترسانة الجوية والبحرية وبعشرات الألوف من الجنود الإسرائيليين، الذى جوبه بمقاومة باسلة أوقعت فى الساعات الأولى أكثر من ثلاثين ضابطًا وجنديًا بين قتيل وجريح من الجيش الإسرائيلى، الذى يعترف قادته بأن المعركة أقسى مما توقعوا وأنها ستكون طويلة وضارية. ودعونا نبتهل أن ينصر اللّه إخواننا فى وجه العدوان بما أننا لا نملك غير الدعاء.