عندما تتوافر الإرادة والقيادة يمكن أن نحقق بعض النجاح فى بعض المواقع، وهذا ليس مجرد فرض نظرى، ولكنه واقع فعلى حدث فعلاً ويمكن أن يحدث فى مواقع أخرى كثيرة، لو توافرت الإرادة والعزيمة الصلبة والقيادة المقتدرة الواثقة بنفسها والمدعومة من فوقها ومن أعوانها. وقد شاهدت بالأمس صورةً من صور هذا النجاح المبهر. وكانت البداية عندما تلقيت دعوةً من الفريق أحمد شفيق، وزير الطيران، لحضور افتتاح المبنى الثالث من المطار الجوى. وفى كل يوم أتلقى دعوات من جهات كثيرة، ولكن هذه الدعوة لابد من التوقف عندها وتأملها فى ذاتها. الدعوة عبارة عن علبة كرتون جميلة على هيئة حقيبة صغيرة، يحيط بها حزامان من الجلد - أو هكذا يبدوان - ومكتوب عليها من ناحية عبارة Invitation، ومن الناحية الأخرى اسم المدعو وقرينته، بافتراض أن له قرينةً «وليس قريناً». ما أكثر الدعوات التى يلقى عليها الإنسان نظرةً ثم يتركها!.. ولكن هذه الدعوة تجبرك على أن تتوقف عندها وتتأمل فى جمال تصميمها. وما أظن أنى وحدى الذى أحس بهذا الإحساس. فكثيرون ممن تلقوا هذه الدعوة كان شعورهم نحوها مختلفاً عما يتلقونه من دعوات أخرى. وفتحت الدعوة، فإذا بى أجد بداخلها تذكرتى طيران - الخالق الناطق - واحدة للمدعو والأخرى لقرينته بطبيعة الحال.. ومع التذكرتين خريطة توضح كيفية الوصول إلى مبنى الركاب «3» الجديد فى مطار القاهرة الدولى، ولم أكن فى حاجة إلى الخريطة، فأنا أعرف الطريق إلى مطار القاهرة من كثرة ما عانيت من أسفار. ومبنى الركاب الجديد «3» ليس بعيداً عن المطار الجديد «المبنى الثانى». وأخيراً، وصلت إلى باب الدخول ورأيت مئات من المدعوين يدلفون إلى الداخل، فأدركت أننى وصلت إلى حيث يجب الوصول، فتركت السيارة للسائق وترجلت وتركت «حقيبة» الدعوة فى السيارة فما ظننت أننى سأكون بحاجة إليها. وعلى باب المدخل لقيت الصديق العزيز الأستاذ العميد على الدين هلال - هكذا أحب أن أدعوه فهذا هو أحسن وصف له عندى - ومعه السيدة الفاضلة زوجته التى أكن لها مودةً كبيرةً وتبادلنا التحية والتهنئة بالأيام الطيبة ثم دخلنا إلى داخل البهو. وإذا بى أرى المدعوين يقفون على خانات أو شبابيك السفر، ومع كل واحد منهم تذكرته يقدمها لموظف أو موظفة ويأخذ «Boarding card»، تماماً مثل الذى نأخذه ونحن نصعد إلى طائرات السفر.. «بحق وحقيقى». وأدركت أننى أخطأت عندما تركت «حقيبة» الدعوة فى السيارة. ورآنى أحد كبار موظفى المطار، وأدرك حيرتى، ويبدو أنه كان يعرف وجهى بالمصادفة فحيانى وسألنى ما الخبر؟ فقلت له إننى تركت الدعوة فى السيارة، فقال لى هون عليك، من فى مصر لا يعرف فلاناً، وسررت طبعاً بعبارة المجاملة اللطيفة وقادنى السيد اللواء إلى أحد المنافذ حيث وقفت أمام المضيفة التى سألتنى عن اسمى ثم وقَّعت على أزرار أمامها وإذا بها تجد اسمى ورقم تذكرتى وتعطينى بطاقة الصعود إلى الطائرة. حقاً، لقد شاهدت آيةً من آيات الإبداع المعمارى والهندسى والفنى. وأزعم أننى رأيت أغلب مطارات العالم الكبيرة وأزعم أيضاً أن هذا الذى شاهدته لا يقل روعةً عنها إن لم يكن يتفوق على كثير منها. ومن حق الفريق أحمد شفيق والرجال الذين عاونوه فى تحقيق هذا الإنجاز الضخم، أن يتلقوا ما يستحقون من تهنئة من أبناء مصر أجمعين، لما قدمته أيديهم لمصر الغالية التى تستحق منا جميعاً مثل هذا العطاء أو بعض هذا العطاء. وفى ردهات المطار، وعلى السلالم المتحركة، وفى كل مكان، رأيت معارف كثيرين وأصدقاء.. رأيت عديداً من الوزراء السابقين، الدكتور ممدوح جبر والدكتور عزت سلامة والدكتور ممدوح البلتاجى والدكتور مصطفى السعيد وآخرين كثيرين.. وطبعاً الوزراء الحاليون كان لابد أن يشاركوا فى هذا الفرح الكبير. ورأيت اثنين من أقدم الأصدقاء، وأَحَبِّ الأصدقاء. رأيت زميلاً كان معى فى مدرسة شبرا الثانوية، وبعد الثانوية ذهب هو إلى الكلية الحربية ثم كلية الطيران وأصبح من نسور الجو المشهودين ومن أبطال المصارعة العالميين، ومع ذلك فقد كان من أَحَبِّ الناس إلى الناس. كان من الذين يصدق عليهم القول «الموطَّأون أكنافاً الذين يؤلفون ويألفون» ومنذ عدة سنوات أنهى خدمته مديراً لمطار القاهرة الجوى، وفى كل سفرة كنت أراه وكنت أسعد بلقياه. ثم بلغ سن التقاعد وتباعدت بيننا الأيام.. كم كانت فرصةً عندما رأيت اللواء عبدالعزيز بدر وكم كانت فرحتى وأنا أرى زملاءه وتلاميذه يحبونه ويحيونه ويفرحون به! وكم كنت سعيداً وأنا أراه ممتلئ الصحة ممتلئ الحيوية هاشاً باشاً كعادته منذ أكثر من نصف قرن! أما الصديق الآخر، فقد كنا معاً منذ الشهادة الابتدائية ثم دخلنا كلية الحقوق معاً وتخرجنا معاً فى العام نفسه - عام 1952 بكل ما يحمله من عبق التاريخ وآلامه - وذهب هو إلى مجلس الدولة ومنه إلى حقوق جامعة عين شمس، وذهبت أنا إلى النيابة العامة ومنها إلى حقوق القاهرة. ولم تنقطع علاقتى مع هذا الصديق فى يوم من الأيام. حقاً كنا نغيب عن بعض أياماً وشهوراً، ولكننا كنا نلتقى وكأننا لم نفترق قط، ذلك هو الصديق العزيز الدكتور أحمد القشيرى، نائب رئيس محكمة التحكيم الدولية بباريس.. كان لقاءاً حميماً وعزيزاً. وأخذاً بنصيحة أطباء المسالك البولية لكبار السن أمثالى ذهبت إلى دورة المياه قبل انتهاء الزيارة، فوجدتها نظيفةً لامعةً مجهزة بأحدث الأجهزة.. ترى هل سنصون هذا المبنى الشاهق الجميل كما يحسن أن تكون الصيانة، الصيانة التى تحمى الشىء وتطيل عمره وتزيد أداءه؟! ليتنا نتنبه فى كل مكان إلى أهمية النظافة والصيانة. وعندما اقتربنا من الخروج وذهبت لتهنئة الفريق أحمد شفيق، شد الرجل على يدى بحرارة وقوة وأظن أنه قد أحس بمدى حرارة مشاعرى نحو هذا العمل العظيم الذى أنجزه، والذى أرجو أن يتكرر مثله فى مصر. وأظن أن مصر تستحق منا جميعاً الكثير.. والحمد لله أننا استطعنا أن ننجح فى أمر من الأمور.