سيدى الرئيس، تحية طيبة، وبعد. أعلمُ أنك تشاهدُ العرضَ النهائيَّ وحسب. لكنك لا ترى البروفات قبل العرض، ولا ما يدور فى الكواليس أثناء العرض. تلك طبائعُ الأمور. فى تنقّلاتك من البيت إلى القصر الرئاسيّ، أو فى جولاتك لافتتاح صرح، أو فى العودة من المطار، الخ، أنت لا ترى إلا شوارعَ هادئةً خاويةً نظيفة، ورجالَ أمن مركزىّ يصطفّون على الجانبين مثل نباتات صبّار نبيلة، قطرةُ ماء فى العام ترويها، وقوفا تحت قيظِ الشمس. وجوههم إلى الحائط وظهورهم تحمى موكبك. أدركُ جيدا أن تأمينَ الرئيس هو قضيةُ أمن قوميّ، لكننى أتساءلُ ما إذا كان تأمينُ رأس الدولة لابد أن يتمَّ على حساب ثمانين مليون رأس مصريّ هم متنُ هذا البلد الأمين! وأنا لم أقرأ كثيرا فى بروتوكولات تأمين الرؤساء، لكننى أشكُّ أن البروتوكولَ المصريّ يتفق مع أيٍّ من النظم الدولية.
أعرفُ، وحسب، أن الرئيسَ إذا كان محبوبا من شعبه يمشى دون حراسة كثيفة، مثلما كان الملك حسين يقود سيارته بنفسه وسط المواطنين، ومثلما شاهدتُ الرئيس جمال عبدالناصر فى طفولتى يمرُّ أمام بيتى يُلوّح، من سيارته الكابورليه المكشوفة، للجماهير المصطفّة لتحيته. وإن لم يكن محبوبا فلا أظن أن الحلَّ هو المبالغةُ فى تأمينه من قِبَل رجالات الشرطة والحرس. لابد هناك حلٌّ آخر، لا أدرى ما هو! وتلك ليست الحالَ لدينا، لأن الاستفتاءات ثم الانتخابات تشهدُ أنكَ محبوبٌ، ومن ثم لستَ تحتاجُ كلَّ هذا. وقد خطر لى اليوم، بوصفى أحد ثمانين مليون مواطن يمثلّون بعضَ أدوات عرض تأمين سيادتكم، أن أنقل لكم شيئا مما لا تراه من كواليس العرض ومما شاهدته بنفسى ظهيرة يوم 18 ديسمبر 2008. كنتم سيادتكم تفتتحون مبنى رقم 3 بمطار القاهرة، ونشكرك على هذا الصرح المتطور على أرض مصر الجميلة. آنذاك كان رجالك يؤمّنون وجودك على مساحةِ دائرة: مركزُها المطارُ، وقُطْرُها الأبد. أقصدُ أن محيط الدائرة امتدّ لمساحات غير معقولة، حتى أن كيلومترات طويلةً من السيارات والحافلات والبشر تراصت محتجَزةً من الكيلو 118 طريق القاهرة-السويس حتى الكيلو 4.5 بالقرب من ألماظة. وبالطبع ليست هذه المرة الأولى التى أُحتجَز فيها بسبب مرور موكب، لكننى فى المرات السابقة لم أكن أرى أمامى إلا طوابيرَ من السيارات ونسأل فيقولون «تشريفة». أما اليوم فالحظُّ حالفنى لأحتلَّ الصفَّ الأول فأشاهد، لأول مرة فى حياتى، ما يجرى. فوددتُ أن أنقله لكم لطرافته. بغتةً يمدُّ رجالُ المرور متاريسَ حديديةً أمام السيارات. فى صمت وتجهم ودون كلمة تفسير واحدة. ثم تأتى فِرَقُ الأمن المركزيّ تعدو فى مارش عسكرى وهم يطلقون تلك الصيحة المتقطعة المحببة «ها»، التى مثل زفرةِ المُقاتِل، فتُشعرنا، نحن الجبهة الداخلية، بأنَّ يدًا أمينةً تحرسنا. لكنهم، يا سيادة الرئيس، سرعان ما يحاصروننا، وجوهُهم متحفزة،ٌ وهراوات سوداءُ فى أياديهم، كأننا الأعداء! مرَّ عقيدٌ يتفقدُ، فسألته: فيه حاجة؟ رمقنى شذرًا ولم يجب! فعاودتُ السؤالَ: «لو سمحت تقولنا احنا واقفين ليه؟ من حقنا نعرف على الأقل!» ولم يرد أيضا. وجاءنى عميدٌ وقال: «معلش الريس فى المطار!» فعتبتُ مستنكرةً: «ليه العقيد ده مش بيرد عليّ! أليس من حقى أن أفهم، ومن واجبه أن يُفهمني؟» فابتسمَ ومضى. سألته: «طيب لإمتى إن شاء الله حنفضل واقفين؟» فقال: نصف ساعة. لكننا بقينا ساعةً ونصف الساعة. سأله مواطنٌ: طيب نقدر نلف ونرجع؟ ردّ العميد: «لأ». قالت سيدة: «طيب أنا عندى ميعاد طيارة دلوقت!» أجابها بحسم: «برضو حتستنى». هتف واحدٌ من سيارته: كأننا معتقلون! فرددتُ عليه: نعم، والتهمةُ أنك مصري! فاقترب منى رجل يرتجف ويرمق العميد بخوف هامسا: «اسكتى اسكتى، المصريين أحسن ناس فى الدنيا». فقلتُ له: ليس فى هذا البلد من يفخرُ بمصريته قدرى، لكننى أبكى عدم تقدير هؤلاء لمصريتنا. ما الذى يضيرُ جهازَ الأمن لو حملَ أحدُهم ميكروفونا صغيرا واعتذر للناس بأن موكبا تشريفيا يمرُّ ويرجوهم أن يصبروا ويتحمّلوا؟ هل هذا كثير علينا؟ حتى المعتَقلُ من حقّه أن يعرف سبب اعتقاله! لكنْ أن تُستَلَبَ من أعمارنا ساعات تحت قيظ الظهيرة مُكبّلين فى مقاعد سياراتنا دون أن نفهم السبب فهذا لا يليق بمصريتنا التى نعتز بها، ولا يتفق مع أدنى مبادئ حقوق الإنسان. سيما أنه أمر يتكرر كل يوم، سواء مع تشريفتكم، أو مع مرور طاقم الوزراء، ووكلائهم، ووكلاء وكلائهم. وماذا يضير سيادتكم أن تتحرك فى هليوكوبتر كما كان الرئيس السادات يفعل؟ صحيحٌ أن شعبنا لم يتقبّلِ الأمرَ واعتبره بدعةً غربية، لكنَّ السلوكَ غيرَ المعتاد يكوّن مع الأيام ثقافةً. وسوف يدركُ شعبُنا الذكيُّ، بعد حين، أن هذا هو السلوكُ الأفضلُ لكيلا تتعطلَ مصالحُ البلد. يا سيادة الرئيس، أعلمُ أنك تعلمُ أن تلك التشريفاتِ اليوميةَ قد عطّلت طُلابا عن امتحاناتهم، ومواطنين عن أعمالهم، ومرضى عن أطبائهم، وموتى عن قبورهم. لكنْ هل فكّرَ رجالُك، وهم يحتجزون الناسَ بصَلَف وغِلظة كأننا أعداء الوطن، أننا مصريون مثلهم؟ وأن واجبهم هو رعايتُنا وتأمينُنا تماما مثل تأمينِ سيادتكم؟ هل فكروا أن بين هؤلاء المحتَجَزين امرأةً توشك أن تضع وليدا، وعجوزا مُنهكا، وطفلا جائعا أو مريضا، ومُتعجلا يودُّ اللحاقَ بطائرة أو قطار أو موعد خطير لا ينتظر؟ صغيرى «عُمَر» كان معى. وهو لا يستوعب معنى الاحتجاز والاعتقال. ليس وحسب لأنه فنان، ونال المركز الأول على الجمهورية فى الرسم بالزيت، بل لأنه متوحّد autistic. وتلك الكائناتُ الجميلةُ العذبة، المتوحّدون، لا يفهمون معنى الحبس وتقييد الحرية. هم كائناتٌ مُحَلِّقةٌ مثل الطيور. يعرفون أن الحريةَ والعدالة هما مبدأ هذا الكون، وشِقَيّ الجَمال فى الوجود. مستحيلٌ أن يقبلَ المتوحّدُ أن يُنتَزَع منه هذان الحَقّان: الحرية والعدل. هؤلاء يا سيادة الرئيس ليسوا مثلنا يقبلون الظلمَ والقمعَ والترويعَ صاغرين، هم لا ينصاعون مثلما ننصاعُ خوفا من بطش رجال الشرطة الذين جبروتهم اليومَ فاق كلَّ حد. المتوحدون يَردّون الأشياءَ لأسمائها الأولى ولا يُغيّر التراكمُ الخِبراتى من مبادئهم. لذلك ظلّ صغيرى يرددُ على مدار ساعة ونصف: «الظابط يفتح الطريق!» فأقول له: «مينفعش يا عمر عشان الريس معدى». فيقول: «طيب نرجع البيت!» فأقول له: «برضو ممنوع!» فيصرخ ويضرب بيده على تابلوه السيارة! أما أطرفُ ما فى الأمر فهو سلوكُ المواطنين، الذين فى العادى لا يكفّون عن استعمال آلات التنبيه بسبب ودون سبب حتى أعتلت القاهرةُ مرتبةَ أعلى مدن العالم ضجيجا، كانوا بالأمس صامتين كأنّ على رؤوسهمُ الطيرَ! ولم أدرِ هل أفرحُ لذلك؟ أم أندهش! نسيتُ أن أخبر سيادتكم، أن العلاماتِ البيضاءَ الجميلة والأسهمَ المرسومة على الأرض، «المنظفة بعناية»، من المطار وحتى بيتكم، لم تكن موجودةً حتى الأمس. رسموها من أجلك وحدك، ومازال جيرُها الطباشيريّ الأبيضُ طريًّا لم يجف. أرجو ألا يقوموا بمحوها غدا، أو بعد غد. [email protected]