هل تذكرون أغنية عبدالعزيز محمود «يا شبشب الهنا.. يا ريتنى كنت أنا»؟ ربما لو طال به العمر لعدلها لتصبح يا جزمة الهنا، ليس لأن الحبيبة تخطو وتختال بها، ولكن لأنها صارت لدى العرب «حذاء الكرامة»، تهفو إليها قلوبهم، وترفرف معها بحثًا عن الهدف المنشود: وجه الرئيس الأمريكى. فما بدأ كغزو قالوا إن العراقيين سيستقبلونه بالورود، انتهى بوداعٍ خاص، تخلت فيه القلل عن دورها التاريخى، لتفسح المجال للأحذية بمقاساتها المختلفة. ومن يدرى؟ إننا نخلع أحذيتنا فى المطارات الأمريكية، فربما نخلعها الآن قبل دخول البيت الأبيض أو عند حضور المؤتمرات الصحفية. وقد تبارى المعلقون العرب فى الإشادة بمراسل البغدادية، فهو الآن بطلٌ قومى، وحامى الديار، وحامل راية «الكفاح النعلى» ضد الاحتلال والإمبريالية الأمريكية. وقد سألنى البعض فى وسائل الإعلام العربية عما إذا كانت الرسالة وصلت إلى الشعب الأمريكى، وهل يعتبرونها إهانةً للأمة الأمريكية كلها أم فقط لرئيسٍ مغادرٍ لايحظى بالشعبية؟. لكن نظرةً سريعةً لما دار على صفحات (الدردشة) فى الإنترنت، أفصحت عن شىء غريب. فكثير من تعليقات الأمريكيين كانت على شاكلة: للأسف أنها لم تصبه بوش يستحقها، وهذا هو الوداع اللائق به. أخيرًا وجدوا أسلحة الدمار الشامل فى العراق وعندما تجرأ شخص وتحدث عن بوش باعتباره الرئيس الأمريكى ولا تليق إهانته، تحولت التعليقات الساخرة إليه مثل : مالك يا حبيبى؟ هل جرحت مشاعرك؟ فلتذهب معه إلى الجحيم.. وهكذا. البعض أيضا تحدث عن مهارة بوش فى تفادى الحذاء، وخيبة الصحفى فى التنشين، وقال إنها تفسر خيبة العرب. ورغم أن مفهوم إلقاء الحذاء لا يحظى فى الثقافة الأمريكية بكل معانى التحقير المرتبطة به فى الثقافة العربية، فإن مدلول ماحدث لم يخف على الأمريكيين والمحللين السياسيين فى وسائل الإعلام هنا، فجاء تعبيرًا عن كل ماحدث من أخطاء فى عهد بوش، بل قرأت اقتراحًا طريفًا من أحد المواطنين بأن يرسلوا كل أحذيتهم القديمة للبيت الأبيض لتكون فى وداع أقل الرؤساء شعبيةً فى التاريخ الأمريكى. أما ردود الفعل فى الشارع العربى على «موقعة الحذاء» فهى تذكرنى بماحدث فى كأس العالم لكرة القدم عام 1998 عندما فاز الفريق الإيرانى على نظيره الأمريكى، فيما اعتبر فى إيران والكثير من دول العالم الإسلامى نصرًا مؤزرًا وانتقامًا هائلاً من «الشيطان الأعظم». لكنهم لم يدركوا حينها أن أغلب الأمريكيين لم يكن لديهم علمٌ أساسًا بهذه المباراة، ولو شاهدوها ما كانوا ليفهموها. أما من لديهم معرفة بموقع إيران على الخريطة فكان ردهم يعبر عن الأمل فى أن يخفف ذلك من الشحن العام ضد الولاياتالمتحدة هناك، فقد حصلوا على انتقامهم الكروى وهذا هو المهم. لقد حصل العرب أيضًا على الرمز المصور لحكمهم النهائى على بوش وسنواته الثمانى العجاف فى البيت الأبيض، واعتقادى أن هذه الصورة الرمزية ربما تستمر لسنوات طويلة لدى بعض المؤرخين الذين قد يجدون فيها تجسيدًا لكل مشاعر الرفض والإحباط والغضب من سياسات الإدارة الأمريكية بكل ما أدت إليه من كوارث. لكن المبالغة التى رأيتها فى رد فعل الشارع والإعلام العربى، كانت أيضًا تعبيرًا عن العجز وقلة الحيلة. فهذا الحذاء لن يحرر العراق، ولن يقيم الدولة الفلسطينية، ولن ينشر الديمقراطية والحريات المحرَّمة من المحيط إلى الخليج. إن العرب يمكنهم أن يفرحوا كما يشاءون بالرمز، لكن مشكلتهم أنهم ليس لديهم سوى الرمز، يعيشون به وله. أما الأمر الآخر الذى ضاع وسط ضجة التهليل لما فعله الصحفى العراقى، فهو الجانب المهنى البحت. فمهمة الصحفى إلقاء الأسئلة، لا إلقاء الأحذية. وتصرف مراسل البغدادية، يشبه فى ابتعاده عن المهنية تصرف صحفى عراقى آخر، وقف يهتف لبول بريمر، أول حاكم مدنى أمريكى للعراق بعد الغزو، ويقول له إنه صار أبًا وأخًا لكل عراقى. كانت هتافاته تشبه تلك العبارات التى كثيرًا ماسمعناها تتردد عن صدام حسين وقت سلطته وجبروته. إنها النقيض لإلقاء الحذاء وسب الرئيس الأمريكى، لكنها تعبر عن نفس المعنى: فكلاهما يلتمس وسائله الخاصة فى التعبير عن موقفه بعيدًا عن الأساليب المهنية للصحفى المحترف، وكلاهما يجسد أزمة الإعلام العربى. أحدهما بعبارات النفاق المبتذلة، والآخر ليس منافقًا لكنه عبر عن رفضه أو غضبه بالحذاء الطائر. أقول ذلك مع تفهمى الكامل لكل الضغوط والأسباب الخاصة أو العامة التى دفعته لمثل هذا التصرف مع بوش. أعلم أن كلماتى ربما تكون مثل «كرسى فى الكلوب» ولا أود أن أفسد فرحةً نادرةً لشعوب تبحث عن الأمل من ثقب الإبرة، لكنى أقولها مخلصًا لمن أقاموا متحفًا للحذاء وصاحبه: إن كرامةً يستعيدها الحذاء هى كرامةٌ رخيصة!.