القول ذائع أن الاختلاف بين الفقهاء فيه رحمة بالعباد، لأنه يفسح الطريق لاختيارات متعددة، وييسر ما كان صعبا وعصياً على الإدراك والفهم. ومع ذلك الذيوع فإن الحيرة هى أول ما يصيب المصريين ساعة الاختلاف؛ ولم تكن هناك حالة مثل ذلك مؤخرا قدر ما حدث داخل الحكومة المصرية، عندما اختلف اتجاه المجموعة الاقتصادية مع محافظ البنك المركزى حول تخفيض سعر الفائدة، كأحد الأساليب للتعامل مع الحالة الاقتصادية الراهنة ومع ما تحتويه من تباطؤ واحتمالات ركود لا تتحمله دولة تباطأت وركدت كثيرا من قبل. والخلاف معلوم، فالأولون قالوا إن ذلك-خفض سعر الفائدة- سوف يحفز النشاط الاقتصادى كما فعلت كل دول العالم، وقال الآخرون إنه لا يمكن فعل ذلك، بينما الحقيقة تقول إن سعر الفائدة الحالى – حوالى 10%- أقل من نصف التضخم الذى يدور حول 21%. حملت القضية إلى صديقى عالم الاقتصاد المرموق أحمد جلال وكانت إجابته أولا أنه سعيد بالاختلاف لأن ذلك من الأمور «الطبيعية» فى كل دول العالم، حيث يختلف وزير المالية مع محافظ البنك المركزى؛ ولو لم يكن هناك اختلاف لكان فى الأمر لغز وخروج على نواميس الكون الاقتصادية. وثانيا أن منبع الخلاف هو اختلاف المهمة، فمحافظ البنك المركزى مهمته الأولى هى استخدام السياسة النقدية لمواجهة ومعالجة التضخم، ومن بعدها تأتى أمور أخرى مثل سعر العملة المناسب، وبناء الاحتياطيات الوطنية؛ أما وزير المالية وبقية المجموعة الاقتصادية فإن مهمتهم هى تشجيع النشاط الاقتصادى إذا ما كان متباطئا، والحفاظ على توازنه إذا ما كان متسارعا، وحتى تبريده إذا ما وصل إلى الدرجة من السخونة التى قد تفجر التضخم والبنية الأساسية. والحالة هذه، فإن التناقض بين الأهداف منطقى وطبيعى، فالنشاط الاقتصادى المتسارع مع النمو يولد آثارا تضخمية لابد لمحافظ البنك المركزى أن يكبحها حتى لا يضيع النمو من ناحية، وحتى لا يتأثر الأقل حظا من ناحية أخرى. وتبدو المسألة كما لو كانت حالة شخص لا بد له من الوصول إلى عمله فى موعد محدد وهذه مهمة، ولكن سرعته للوصول إلى العمل مهمة أخرى فإن تباطأ فلن يصل فى الموعد، وإن أسرع فربما خالف قواعد المرور، ومن الجائز أن يقع فى حادثة تمنعه من الوصول إلى عمله إلى الأبد! وثالثا - والكلام لا يزال للدكتور أحمد جلال - أن القضية هكذا ليست فى الخلاف، ولكنها فيما إذا كان كل طرف قد قام بمهمته الأصلية أم لا، وهنا ينبغى أن يكون السؤال ويدور البحث. فالثابت حتى الآن أن البنك المركزى لم يفلح فى محاربة التضخم الذى أصبح أكثر من ضعف سعر الفائدة، وما جرى من انخفاض حتى الآن من 25% إلى 21% إنما يعود لأسباب عالمية، وذلك لأن الأولوية لم تكن للتضخم وإنما للعمل على استقرار سعر العملة وبناء الاحتياطيات، وتوجد شكوك حول ما إذا كان لدى البنك الأدوات البحثية الكافية التى تجعله قادرا على مواجهة التضخم. وبالمثل فإن تركيز المجموعة الاقتصادية، ووزير المالية فى المقدمة، على تخفيض سعر الفائدة يغفل وجود أدوات أخرى كثيرة غير مستخدمة من أجل تحفيز النشاط الاقتصادى، ومنها الإنفاق الحكومى كما فعلت الحكومة بالفعل بالعمل على إنفاق 15 مليار جنيه، شريطة أن تكون من موارد حقيقية، حيث لم نعلم حتى الآن ما المصادر التى سوف يعتمد عليها هذا الإنفاق. ولكن هناك مصادر من أول الأراضى الحكومية الواسعة، وحتى بيع أسهم الشركات العامة وليس تحويلها إلى صكوك مجانية، إلى أن نصل إلى تسهيل العقبات البيروقراطية فى مواجهة النشاط الاقتصادى، التى جعلت مصر فى المكانة 114 بين دول العالم من حيث إقامة المشروعات. وبالتأكيد فإن هناك ما هو أكثر ويمكن عمله من أجل تشجيع النشاط والنمو الاقتصادى، شريطة أن يكون هناك قدر أكبر من الشفافية، والخروج للرأى العام بأهداف واضحة ووسائل جلية من أجل تحقيقها، سواء كان ذلك على جانب البنك المركزى أو على جانب المجموعة الاقتصادية. بدا الكلام معقولا، وبالفعل فإنه لو قام كل طرف فى مصر بالمهمة المؤهل لها لربما، ليس فقط عرفنا فضل الاختلاف، وإنما أيضا لأنجزنا المهمة ووصلنا فى الموعد!